بما أننا نعيش عصر تدفق المعلومات فإن أول ما يتبادر إلى الذهن أن الغاية من ذلك هي منع احتكار الثقافة، وضرب مركزية المثقف الفرد أو المؤسسة، وجعلها مشاعة للجميع، هذا ما قد يبدو عليه الأمر، غير أن واقع الحال يقول العكس تماما، فقد بدا أن الهدف من تدفق المعلومات بهذا الشكل الطاغي، والعابر للحدود، والمكتسح للمصدات، وسياجات المنع، إنما هو إرباك للذاكرة الجمعية، والتشويش عليها عبر تزاحم المعلومات، ودفعها بالتالي لقبول أي شيء في أي شيء، ومن ثم اتساع مساحة الشك من كل شيء في كل شيء.
هذه السيول العارمة من المعلومات التي تتدفق من كل حدب وصوب، ومن مصادر موثوقة، وغير موثوقة، فتجرف كل ما أمامها من الحصانات، والقناعات، والأفهام، لتؤسس لقناعات جديدة ولو مرتجفة، وأفهام مختلفة ولو ضبابية، قد تتشابك في النهاية مع بعضها خاصة عند عامة الناس ممن لم يتمكنوا من بناء معارفهم بالاطلاع ويعززوا مدركاتهم بالثقافة، وبما يؤهلهم للفرز بين ما هو دقيق وما هو مضلل، وبين ما هو حقيقي وما هو مفترى، عندها تصبح المعلومة مجردة بلا جذور، ولا حبل سرة، ولا صلة نسب، ما يجعلها بالنتيجة قابلة للإزاحة مع أول اصطدام بأدنى معلومة مناهضة لها، وقابلة للذوبان فيها، أو الحلول محلها، لأنها في الأساس وصلتْ عبر التحليق دون أن تلامس أقدامها أرض التثبت، ولم تصل إلى العقل عبر خطى الرصف الثقافي الذي يراكم خطاه خطوة خطوة حتى يبلغ سن النضج.
صورة المشهد الثقافي بأدواته الجديدة في نقل المعلومة، باتت تشبه المسبح ــ لا أريد أن أقول المستنقع ــ هذه كلمة قبيحة وإن كانت أكثر دقة في توصيف المشهد، هذا المسبح قابل لاستيعاب كل ما يلقى أو يقذف فيه، منها ما يعوم ومنها ما يغطس في قاعه، بعد أن أوهمتْ آليات ثقافة جوقل ضرورة موت المثقف، فيما فشل المثقف في التفاعل مع هذا الواقع، وانحسر دوره إلى الصفر في أقصى الهامش، ولم يفلح في اجتراح دور مؤثر له.
أسأل المثقفين كم مرة صادفتكم معلومة صادمة في تويتر أو فيس بوك أو الـ «واتساب» يتداولها الناس كحقيقة مطلقة، ومنهم أسماء كنتم تعتقدون أن لها وزنها، في حين أنكم تعلمون أنها لا صلة لها بالحقيقة ولكن لا حول لكم ولا قوة؟. لذلك سأظل أشك أن ثمة غاية من تدفق المعلومات بهذه المجانية، وهي أن هنالك من يريد ضرب الذاكرة الجمعية، وتهيئتها للشك حتى فيما لا يشك فيه لإعطاء سلطة فرض ما يراد فرضه لترند السوشيال ميديا.