زرت كوبنهاجن مرتين كان بينها قرابة العشر سنوات. أولها أثناء الدكتوراة عندما ذهبت لمقابلة معماريي مكتب هيننج لارسن (Henning Larsen Architects) وهم من صمم وزارة الخارجية والمخطط الرئيسي لمدينة الملك عبدالله الاقتصادية في الرياض. زيارتي الثانية كانت للسياحة الصيف الماضي حيث بدأت وختمت رحلة في أرجاء الدنمارك. رغم اختلاف هدف الزيارة والموسم والمدة الزمنية بين الزيارتين تركت المدينة في ذاكرتي انطباعا إيجابيا في الزيارتين. فالمدينة نظيفة ومريحة، تتميز بنسب شوارع ومبان تمتاز بالكرم ومع ذلك تحترم مقياس الإنسان. من أوائل ما يثير الاهتمام في المدينة كثرة الدراجات الهوائية الفردية والعائلية التي تحوي صندوقا قد ترى من داخله رأسين يتناثر منه الشعر الأشقر لطفلين. عرض مسارات الدراجات في المدينة ينافس عرض رصيف المشاة ومسارات السيارات كذلك وهذا متوقع كون 40٪ من سكانها يستخدمون الدراجة بشكل يومي. تعتبر كوبنهاجن نموذجا يحتذى به في التخطيط الحضري، حيث إنها تتمتع بمزايا مبنية على خطط ذات بعد نظر. في عام 1947 اعتمدت تخطيط الأصابع (The Finger Plan) الذي اشتهر منها. فمركز المدينة على الشاطئ يشكل راحة اليد بينما الضواحي تنتشر مثل الأصابع. يرتبط كل إصبع بالمركز عبر قطارات والمساحات بين الأصابع حوفظ عليها كمسطحات خضراء تدخل الطبيعة إلى قلب المدينة. كذلك تعتبر كوبنهاجن رائدة بجهود المعماري والمصمم الحضري يان جيل (JanGehl) الذي وجه تصميم المدينة لتحسين مستوى المعيشة من خلال التركيز على احتياجات المشاة وقائدي الدراجات الهوائية. تعتبر المدينة نموذجا تتعلم منه مدن العالم في مجال الأنسنة.
تحتل المدينة المراكز العليا في قوائم مؤشرات الرفاهية سنة تلو الأخرى، ويقال إن الدنماركيين هم أكثر شعوب العالم سعادة. ما رأيته على أرض الواقع يتماشى مع ذلك. فالمدينة عائلية تهتم بأمور الطفل كثيرا، والتوازن ما بين العمل والحياة. تتوزع في المدينة أماكن ترفيه مثل الأماكن المفتوحة التي تسمح بالاستمتاع بأشعة الشمس على ضفة الشاطئ والمسابح المفتوحة ومسارات الدراجات التي لا تنقطع والحدائق والمباني الثقافية والمقاهي. ملاهي تيفولي تحتفل بمرور 100عام على إنشائها وبداخل المدينة مدينة «مستقلة» هي كريستيانيا، والتي نشأت من احتلال الناس لمنطقة عسكرية مهجورة. المدينة تهتم بالإنسان وكل ما يحتاجه، لذلك تركز على النواحي البيئية، حيث يتوقع أن تكون كوبنهاجن محايدة الكربون (Carbon neutral) بحلول 2025. أي أنها لن تساهم في انبعاثات الكربون التي تؤدي إلى الاحتباس الحراري.
للوصول للهدف سوف يتم توسيع البنى التحتية للدراجات الهوائية، وتحويل مصدر طاقة المواصلات العامة إلى مصادر نظيفة. كذلك تشمل الخطط تغيير إضاءة الشوارع إلى LED. من المذهل أن البيوت تحصل على الدفء والحرارة من مصدر مركزي، لذلك يسهل تبديل مصدر الطاقة والتقنية بشكل سهل نسبيا مقارنة بما يكون عليه الوضع لو أن كل بيت أو بناية اضطرت لتبديل التقنية المستخدمة.
يمكننا أن نزور كوبنهاجن للاستمتاع لأيام ولكن الأكثر فائدة هو أن نستفيد من بعض دروسها في رفع جودة الحياة في مدننا.