وحين نتأمل طبيعة التغيير الذي بدأ يتشكل في أفق الثقافة والمجتمع فنحن أمام اتجاهين كل اتجاه يعزز الآخر ويدفعه للأمام.
الأول التركيز على إظهار الموروث الشعبي لمختلف فئات المجتمع في مناطقه المتعددة على اعتبار أن هذا الموروث يمثل في مجموعه هوية المجتمع وقيمه التي تربى عليها، فليس الغناء الشعبي وفنونه المختلفة وطقوسه وعاداته وأشعاره وقصصه وحكاياته، إلا الامتداد الطبيعي لإنسان هذه الأرض وتاريخه، والسعي لإبرازه والاعتناء به ووضعه موضع الافتخار والاعتزاز لا ينم سوى عن التوجه الطبيعي للمجتمعات والدول في إظهار تمايزها أمام الآخرين بهذا الموروث، وهذا ما تعمل عليه جميع دول العالم تقريبا.
ومجتمعنا بلا شك عمقه التاريخي في الجزيرة العربية يوفر الفرص الكثيرة لاستثمار آثاره على جميع الصعد والمستويات سواء على المستوى الاقتصادي أو الثقافي، كما رأينا في مهرجان شتاء طنطورة في العلا.
لقد فتح هذا المهرجان الباب على مصراعيه لدخول البلد في عالم السياحة العالمية ونبه العالم إلى الكنوز الفريدة التي تتمتع بها المملكة على هذا الصعيد، لذلك المكاسب كبيرة ونحن لما نزل في بداية الطريق.
إذا كان الأول يركز على إظهار ما للموروث الشعبي من أهمية على صعيد الاستثمار وتعزيز ثقافة إنسان الوطن، فإن التركيز الآخر حدد توجهه من خلال ثقافة الترفيه، وهو في عمقه توجه يستدعي ثقافة الآخر، أي كل ثقافة تنتمي إلى أفق الحاضر وتكون جزءا لا يتجزأ من ثقافة العصر الذي نعيش فيه، وهذا هو معنى الانفتاح على العالم كي تكون جزءا منه دون أن تتخلى عن هويتك أو ثقافتك التاريخية. والترفيه يحقق هذا المطلب فصالات السينما وحفلات الغناء والموسيقى وجلب المسارح العالمية، وعمل مختلف الأنشطة والألعاب الرياضية والمسابقات الثقافية هي جميعها تذكرة عبور للمجتمع كي نقول للعالم نحن مثلكم نحب ما تحبون ونكره ما تكرهون.
هذا التوازن بين الاعتناء بالداخل والانفتاح على الخارج هو ما يمكن أن نصف به التجربة التي يمر بها المجتمع السعودي في لحظته الراهنة.
وإذا كانت الفنون هي قطب الرحى في هذه التجربة، فإن ما لا يمكن إغفاله الدور الكبير الذي نشاهده في الإقبال من فئة الشباب بالخصوص على القراءة -وهذا ما تلمسته مؤخرا في معرض الكتاب بالرياض، خصوصا الشابات - المنظر الأخاذ للكثافة البشرية حول دور النشر، لا يقبل الشك أن بلدنا مقبل على مستقبل يرسم معالمه أبناؤه الشباب.
الثقافة أصبحت هوية عالمية فضلا عن كونها العبور الأسلم للتموضع في العالم، ومن يرد أن يعرف ذلك فعليه فقط أن يتعرف على المهرجانات الموسيقية والشعرية التي تقام في عواصم العالم، وسيجد حقيقة واحدة جد مهمة أنها لا تقام سوى في الأماكن العامة والأثرية التي تشكل قيمة رمزية عند أهل البلد. هذا التوجه هو ما نرى ملامحه قد بدأت تظهر مع هذه التجربة الثرية.