(1)
حاولت مرارا إزاء الشعر أن أكون إنسانا عدميا وشكاكا , لكني تراجعت , أجفلت كثيرا من فكرة كوني إنسانا يقلب القيم ويدمر الأخلاق , ثمة شعراء حاولوا : لوتريامون, سيوران, آلن غنسنبرغ, باول تسيلان, فرناندو بيساو, وآخرون, لكنهم وقفوا على حافة الأشياء دون أن ينجرفوا إلى الهاوية, حتى نيتشه لم يكن هو ذاته زرادشت التاريخي, ثمة تأويلات للحياة نصادفها في الأفكار والتصورات التي تعبرنا من أول زمن الأسطورة إلى زمن الحياة الحديثة, ليست أزمنة بودلير ورامبو, إنما الأزمنة التي قال عنها ماركس « كل صلب فيها يتحول إلى أثير» . إن الحرية التي نطالب بها في هذه الأزمنة لا تأتي, ليس كونها ممتنعة التجسد بسبب قلة الوعي الثقافي والسياسي والاجتماعي في حياتنا العربية , وإنما كذلك بسبب ما ندعيه من مقولات زائفة حول الوعي الجمالي الذي حملناه مثل جرار على أكتافنا منذ الطفولة . لا أريد أن أترك الباب مواربا حول تلك المقولات, وما يكتنفها من إشكاليات تمس العمق من الحياة التي نسميها مجازا إبداعا , لكني بالتأكيد لن أشرع الباب على مصراعيه, فحياتنا لا تحتمل صندوق باندورا آخر حينما ينفتح على كل عجيب وغرائبي في هذا العالم . يكفي أن أشير هنا إلى أن أكثر المعوقات في الرغبة – الرغبة هنا ليست سوى استعارة أصلية للإنسان حسب لا كان – على التفتح الجنسي في الشعر من خلال ممارسته حياتيا بحيث يصبح مشاعا للجميع حسب تعبير الشاعر نوفاليس. هذا العائق هو فقدان الإحساس بأهمية الزمن داخل القصيدة , وهو ما يعكس بالتأكيد إشكالية منسوب انخفاض وارتفاع الزمن في ذهنية الإنسان العربي بوجه عام. لقد كانت الموسيقى في صلتها بالزمن والفضاء رافدا حقيقيا في تحرير الشعر نفسه، وكذلك الأدب من الاشتراطات الذاتية التي حكمته عبر تحولاته التاريخية , ألم تكن موسيقى فاغنر المحرض الأكبر على رائعة نيتشه « زرادشت « , وكذلك شوبان في تأثيره المتبادل مع الفنان التشكيلي أوجين دولا كروا على مسيرة الشعر الفرنسي خصوصا في مرحلته الرمزية , ألم تكن رسومات براك وماكس آرنست السوريالية تتشكل من أثرها العميق على الإحساس بزمنية الأشياء وخصوصيتها داخل قصيدة ـ على سبيل المثال ـ فرنسيس بونج في ديوانه « التحيز للأشياء «.
نحن لا ننكر ـ من جهة أخرى ـ حضور العمق الزمني بكل أبعاده الجدلية الوجودية في الشعر العربي الموروث. يقول تمتم بن مقبل : ما أطيب العيش لو أن الفتى حجر .... تنبو الحوادث عنه وهو ملموم لكنه زمن ارتبط بموروث اتصل بحياته الاجتماعية والدينية والاقتصادية أيما اتصال !! وهذا دليل آخر يضاف إلى الممارسة الزمنية المهمة داخل القصيدة , لكن عندما نقف على شاعر حديث مثل غليفيك الفرنسي : « إذا ابتسم لك حجر , هل ستجرؤ على الحديث بذلك «.
رغم اختلاف الحضارتين إلا أن الشاعرين مشدودان إلى فضائهما الزمني للحضارة نفسها , ما أريد أن أقوله في النهاية : وهنا اسمحوا لي أن أستعير مقولة الشاعر رينيه شار « إن واجب كل إيقاع زمني في القصيدة أن يتجاوز نظام الخلق , أن يوسع دم الحركات «.
(2)
لماذا لم يفكر الشعرُ في الأرض ؟!! . سؤال طالما أعاد مخيلتي إلى طفولتها الأولى , إلى ذاكرة الأرض , أليس الطوفان هو الصوت الذاهب إلى أعماقنا بأقل الخسائر, وحينما يصل إلى الجذور, لا نعلم كيف نميز بين الرغبات التي سقطت في عاصفة الثلج بفعل التجربة والاجتراح, وبين صوت الارتطام نفسه الذي تحول إلى مجرد بياض, ما زال يقضي صباحاته يتسكع بين الكلمات, وفي آخر النهار يعود أدراجه إلى قلب الشعراء, بعد أن أرهقته المسافة الفاصلة بين القصيدة والقصيدة , بين الطرق المفضية إلى التراجيديا الإغريقية , وبين العتبات التي تفضي إلى حلقات الذكر عند الشعراء المتصوفة الإسلاميين , إلى آخر مكان تصل إليه شخصيات دانتي في جحيمه ؟!!
أينبغي أن نفكر بهذه الطريقة كي نتخلص من المرض حينما تتساقط قطراته كالشلال في قعر الذات ؛ كي لا نقع في مصيدة الذين أرادوا منا أن نركب سفينة نوح بعد الطوفان , أم أننا خديعة كبرى تتخذ شكل « الجرح حينما يسخر من الضماد مقدما « على حد تعبير سركون بولص ؟!! لا أعلم لماذا لا أشعر بالواقع الذي يصفه اوكتافيو باث إلا على درجة مقياس رختر ؟ فعندما نقف على فوهة بركان أو زلزال , نحن لا نكون قريبين من الخطر قدر اقترابنا من حسها المأساوي من خلال صوت اللغة القابع فينا مثل مارد. إنها كوميديا سوداء تذكرني بشخصيات كافكا وأنتونان آرتو, وكذلك يوجين يونسكي. هل هذا هو شعور من يريد « أن يقيم أعياده تحت الأرض» ؟! ورغم أن اوكتافيو باث تأتي عبارته هنا في سياق حديثه عن الشعر في علاقته بالتاريخ , مظهرا دور الشاعر في تفكيك تلك العلاقة لصالح الشعر, إلا أنه من جانب آخر يركز على الصورة الشعرية بدلا من الحديث عن عمومية الشعر, فهو يرى أن الوظيفة الأصلية للصورة الشعرية هي « أنها تعري الواقع وترينا إياه في وحدته النهائية «. ما أريد هنا أن أصل إليه ليس ما يقوله « اوكتافيو باث « في حد ذاته , إنما ما يؤرقني على وجه الخصوص , هو البحث عن الواقع بأثر رجعي , أي أننا نستعير جملة من التصورات عن واقعنا من الآخر, بينما نحن لا نملك من اللغة ما يجعلنا متواطئين بشكل ضمني مع الواقع نفسه بمفرداته الحياتية التي نتنفسها في كل مكان . لقد كان التواطؤ عميقا ومشروعا في ذات الوقت ضد الواقع وعبثيته من خلال إقدام صموئيل بيكيت على ترجمة « باث « إلى الإنجليزية برمزية أكثر تدميرية , وبضجيج أقل.