الصوم في الواقع من العبادات التي يتخذها كثير من بني البشر ضمن منظومة حياتهم، وفي كثير من المذاهب الفكرية يأتي علاجا فعالا وحلا حاسما للعديد من المعضلات، ويجد المفكرون من خلاله الطرق الكفيلة لإخراجهم من متاهاتهم العقلية، فهو يختصر الطريق إلى الحلول لدوره العظيم في تركيز الذات وتصفيتها، وجعل ميدان الرؤية صافيا ليقرر فيه المفكر ما يراه.
وعلى ذلك فليس الصوم مجرد امتناع عن الأكل والشرب، فذلك قد يحدث لأسباب تتعلق بالشهية أو أخرى مرضية، ولكن الفكرة في الغرض من هذا الامتناع الذي يستهدف النفس وتنقيتها من الشوائب وتحريرها من التعقيد والانطلاق بها في فضاء واسع من التدبر والتفكير العميق الذي يختلف عن النظر إلى الأشياء والمعاني من زاوية ضيقة أو منظور سطحي.
رمضان يمنحنا جميعا بلا استثناء العمق الذي نحتاجه لأن نبصر بعيون مفتوحة في الأعماق، ومن تفوته هذه الفرصة فهو لم يستفد من الصوم، وإنما عبر به الوقت كأي وقت آخر، فيما هذا التوقيت المخصوص ثمين للغاية ويمثل مرحلة انتقال كبيرة في حياتنا، لذلك من المهم أن نتعامل مع رمضان بأكثر من أن يكون مجرد عادة سنوية للتوقف عن الأكل والشرب منذ الصباح إلى المغرب، فالأمر أكبر وأعمق من ذلك.
كثير من التفاصيل تختلف في رمضان فضلا عن الأجواء التي نعيشها، فهي مميزة بشكل مذهل جدير بأن نتوقف عندها ولا نتعامل معها في إطار المتعة الذاتية فقط، وغنما ننظر إلى الصورة الكلية التي تجعل شهر رمضان قيمة فكرية كلية للصفاء والنقاء الفكري والتحرر من القيود التي تكبّل العقل والفكر، فهناك دائما فرصة لاستبصار الحلول والأفكار الجديدة والمبتكرة حين نتجه بعقولنا إلى لب المشاكل مهما كانت درجاتها، وسنجد بالتأكيد لمحة أو بصيص أمل لتفكيك أي تعقيدات لم يكن بالإمكان أن توجد لها إمكانية للتعامل معها في غير هذا الوقت.
ينبغي أن نحرص على التعامل مع شهر رمضان كفرصة ومناسبة عظيمة لإعادة اكتشاف الذات والانطلاق بها عبر محطة زمنية إلى أخرى أكثر استشرافا لقادم الزمن والأيام، أي أنه بمثابة قوة دفع لكل منا حين ينظر إلى الشهر الفضيل بأكثر مما هو عادة تعبدية، وإنما انتقال في الروح والنفس إلى آفاق جديدة تمنحنا حيوية كامنة نستكشفها حين نتعامل مع هذا الوقت بصورة صحيحة بعيدا عن الخمول والسلبية التي تعمل على تآكل القيمة وإعادة إنتاج الروتين اليومي دون فائدة للصائم.