سأبدأ أولا بتحديد جوهر التعليم في البلدان المتقدمة، التي حققت اعترافا عالميا بجودة التعليم فيها، ولسنا - كما يقال – بحاجة في كل مرة إلى إعادة اختراع العجلة. فهناك تفاوت بين تلك البلدان التي تحتل المراتب الأولى في بعض الأولويات، لكنها جميعا تتفق في أن التعليم الجيد لا يبدأ بالحفظ وترديد اليقينيات، بل بطرح الأسئلة التي تنتمي إلى العصر ومتغيراته. وكل أنظمتها تُبنى على تغير دائم في تلك الأسئلة وفي تراتبيتها، حسب تطورات التقنية وعلوم العصر وقدرات الإنسان في كل مرحلة زمنية، حيث يؤمنون بأن الإنسان في القرن العشرين ليس هو الإنسان في القرن التاسع عشر وما قبله، وفي العقدين اللذين انصرما تقريبا من القرن الحادي والعشرين أصبح مختلفا كليا عنه في العقد الأخير من القرن العشرين. لذلك فإن طرح الأسئلة التي تصلح للعصر، واختيار أيضا ما يناسب كل فئة عمرية في التعليم العام، وما يتفق مع طبيعة التخصص وأهدافه في التعليم الجامعي، لهو الجوهر والركن الأساسي الذي يجب أن تقام على أساسه خطط التعليم في بلداننا العربية، وإلا بقينا نزعم أننا نقوم بتعليم الناشئة والطلاب في الجامعات، ثم يدركون هم أنفسهم أنه لا جدوى حقيقية من تعليمهم، عندما يتعلمون في بلدان متقدمة، أو عندما يواجهون أزمات حقيقية في الحياة، بل وحتى عندما يبدون آراءهم فيما يجري حولهم في تناقض منطقي أساسه الاعتماد على مقولات الماضي ذات الحمولات المشخصة، الخالية من الإضافة إلى الموضوع الذي يجري بشأنه النقاش. فالمعلومات الموسوعية، أو تثبيت بعض المقولات على طريقة «التعليم في الصغر كالنقش في الحجر»، لم تعد قابلة للتطبيق في هذا العصر. وفي تكملة الموضوع، سنتناول العناصر التي تجعل التعليم معاصرا.
لو فتشنا في إضبارات الخطط التنموية التي تعدها أغلب البلدان العربية، لوجدنا أن التركيز في تلك الخطط على العناصر الاقتصادية والسياسية وربما العسكرية، أما الجوانب التعليمية، فتؤخذ على أنها أمور روتينية أو تحصيل حاصل، تقوم بها كوادر بيروقراطية حسب تطورات المؤسسات القائمة عليها، التي تفرض هيمنتها على الصورة النهائية التي يُقدّم فيها التعليم في مراحله العامة والجامعية بدرجاتها المختلفة.
وفي هذه المقالة سأحاول أن أبين أن الطريق الذي تسلكه المؤسسات التعليمية في بلداننا العربية أقرب إلى الماضي المتوسط أو البعيد (حسب الخطط التعليمية أو البرامج الجامعية في كل بلد منها). وقد لفت نظري عبارة صدرت عن أحد رواد التغيير في البلدان العربية، رئيس وزراء الإمارات العربية المتحدة، حاكم دبي، سمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، قال فيها (بعد تصحيح في الصياغة): «لا توجد أزمة طاقة ولا أزمة تعليم ولا أزمة صحة في منطقتنا العربية، لدينا أزمة إدارة.. نحن أمة تملك موارد عظيمة، وتضم كفاءات عظيمة، ولكننا نفتقد من يدير الموارد والكفاءات لصناعة أمة عظيمة». ورغم إعجابي الشديد بهذا الشخص القيادي الفذ، إلا أني أخالفه الرأي في كونه لا توجد لدينا أزمة تعليم، فتعليمنا – كما ذكرتُ أعلاه – ينتمي إلى الماضي، وليس إلى الحاضر. أما ما ذكره عن افتقادنا لمن يدير الموارد والكفاءات (وهو يقصد هنا المهنيين المتخصصين)، فإنه يعود إلى علة التعليم المزمنة لدينا، بعدم الاهتمام بتطوير جوهرها. وسأوضح فيما يأتي هذه القضية.