لست قادرا على الاعتراف، في داخلي على الأقل، أنني فقدت أبي، كلما ألتفت إلى الكلمات كي أشحنها بمعاني الفقد، أجدها وقد تلاشت من بين يدي أو مخيلتي. لست قادرا على الإطلاق، وكأن كياني من الداخل يضربه زلزال يهد أرسى الجبال ثباتا في الأرض بيد أن خارجي وكأنه في نزهة برية تحت سماء صافية. لست قادرا ولا أريده مجرد اعتراف عابر وكأنك ارتكبت خطأ ما في حياتك وتريد الصفح ممن أخطأت عليهم. أبي ليس قبل الفقد ولا بعده كي أقول لنفسي: مات أبي وعلى الكلام أن يلتقط المنجل قبل فوات الأوان. عليه أن يحرث هذه الأرض مرة أخرى حتى لا يظن الموت أنه وحده من يزرع الفقد في حقل حياتي. على الأرجح سأظل شاخصا بصري جهة الغياب لعله يمر بي ويعطيني خاتمه الذهبي، وعندما أضعه في إصبعي أكون قد كتبت مرثية الفقد، ولا حاجة لي أيضا للكلام.
(٢)
لا أسمي البرق اللامع في السماء، سنينك الأخيرة.
لا أسمي البيت المضاء على ربوة عالية، سنينك الأخيرة.
لا أسمي الحجر الذي يسد ثلمة في جدار النهار، سنينك الأخيرة.
لا أسمي الطين الممزوج بماء الحكمة، سنينك الأخيرة.
لا أسمي قدما تصعد سلالم النجاة، سنينك الأخيرة.
لا أسمي الندم وحيدا في أرض الأموات، سنينك الأخيرة.
لكن بعينين غائرتين بالدمع، تنظران إلى نعشك سأسميك أبي فقط.
الريح عينها على التفاصيل حين تقيم ولا تذهب.
(٣)
يدك الحانية حين تمسك يدي بينما أنحني على رأسك أقبّله، أقول لك: «شلونك يبه اليوم» أتفاجأ بقبلة من شفتيك قد حطت على يدي.آهِ.. كيف لأب أن يقبّل يد ابنه؟!
كيف لم أمسك قُبلته قبل أن تطير رائحتها من يدي؟! كيف لم أجرؤ على سحبها؟ ولماذا لم نلتفت أنا وأخوتي إلى تلك الإشارات؟ كانت تكفينا سلة واحدة نضع فيها كل ما تساقط في أيامه الأخيرة من ضحكاته، قبلاته، حزنه، صمته، رائحته، حكاياته، كلماته حين تجف في ريقه ولا تخرج. ثم نتوازعها فيما بيننا حتى يقول كل واحد منا: هذا أبي. الواحد المتعدد في صور المرايا هو أبي أيضا.
(٤)
نسغ الأبوة لا يبدأ بفكرة في المخيلة، ولا ينتهي بعصب محفور في الدماغ، أنه أسطورة الحياة، الامتداد الذي يشدك إلى الجذور، ولا تقوى على التخلص أو الانفلات. رغم ذلك نحن لا نعرف آباءنا كما ينبغي، لا نعرف سوى هضبة واحدة من وديانه وسهوله، لا نعرف سوى النزر اليسير من أسرار حياته. ننظر إلى آبائنا منذ الطفولة كما ننظر إلى غابة لا يجرؤ الصيادون على دخولها أو إلى ملاك مقرب من عرش الله. القدر مأساة الفرد في الحياة، يحتم علينا أن نفكر في آبائنا بعد فوات الأوان وليس قبله. وعندما نكبر قليلا، وندخل في دروب ومنعطفات الحياة ننظر إليهم باعتبارهم نحن، وكأنهم يعيشون على مقاسات ملابسنا، كلما أخذنا في الطول والعرض قليلا كانوا في نظرنا هم كذلك. لذلك كان يمكننا أن نرفع رؤوسنا ونرقب ما تركته السنون والأيام على حياتهم، دون أن نتماهى مع الإحساس بأنهم آباؤنا. هل يمكن أن يحدث ذلك دون السقوط في فخ الأبوة.
ها أنا الآن أكتب عن أبي وأقول: أحتاج إلى بئر عميقة لا تصل إليها مياه الأعماق كي أطل على نسغ الأبوة في جسدي، أحتاج إلى أنفاس أبي التي تركها على فراش مرضه، على شرشفه وسريره، على نظارته، موبايله، ساعته، وعصاه التي يحبها بلونها الرصاصي. لكن قل لي - إذا ما وهبتني الكتابة للوصول إلى ما أحتاجه - هل بالإمكان معرفة آبائنا كما ينبغي قبل فوات الأوان.
لا أسمي البرق اللامع في السماء، سنينك الأخيرة.
لا أسمي البيت المضاء على ربوة عالية، سنينك الأخيرة.
لا أسمي الحجر الذي يسد ثلمة في جدار النهار، سنينك الأخيرة.
لا أسمي الطين الممزوج بماء الحكمة، سنينك الأخيرة.
لا أسمي قدما تصعد سلالم النجاة، سنينك الأخيرة.
لا أسمي الندم وحيدا في أرض الأموات، سنينك الأخيرة.
لكن بعينين غائرتين بالدمع، تنظران إلى نعشك سأسميك أبي فقط.
الريح عينها على التفاصيل حين تقيم ولا تذهب.
(٣)
يدك الحانية حين تمسك يدي بينما أنحني على رأسك أقبّله، أقول لك: «شلونك يبه اليوم» أتفاجأ بقبلة من شفتيك قد حطت على يدي.آهِ.. كيف لأب أن يقبّل يد ابنه؟!
كيف لم أمسك قُبلته قبل أن تطير رائحتها من يدي؟! كيف لم أجرؤ على سحبها؟ ولماذا لم نلتفت أنا وأخوتي إلى تلك الإشارات؟ كانت تكفينا سلة واحدة نضع فيها كل ما تساقط في أيامه الأخيرة من ضحكاته، قبلاته، حزنه، صمته، رائحته، حكاياته، كلماته حين تجف في ريقه ولا تخرج. ثم نتوازعها فيما بيننا حتى يقول كل واحد منا: هذا أبي. الواحد المتعدد في صور المرايا هو أبي أيضا.
(٤)
نسغ الأبوة لا يبدأ بفكرة في المخيلة، ولا ينتهي بعصب محفور في الدماغ، أنه أسطورة الحياة، الامتداد الذي يشدك إلى الجذور، ولا تقوى على التخلص أو الانفلات. رغم ذلك نحن لا نعرف آباءنا كما ينبغي، لا نعرف سوى هضبة واحدة من وديانه وسهوله، لا نعرف سوى النزر اليسير من أسرار حياته. ننظر إلى آبائنا منذ الطفولة كما ننظر إلى غابة لا يجرؤ الصيادون على دخولها أو إلى ملاك مقرب من عرش الله. القدر مأساة الفرد في الحياة، يحتم علينا أن نفكر في آبائنا بعد فوات الأوان وليس قبله. وعندما نكبر قليلا، وندخل في دروب ومنعطفات الحياة ننظر إليهم باعتبارهم نحن، وكأنهم يعيشون على مقاسات ملابسنا، كلما أخذنا في الطول والعرض قليلا كانوا في نظرنا هم كذلك. لذلك كان يمكننا أن نرفع رؤوسنا ونرقب ما تركته السنون والأيام على حياتهم، دون أن نتماهى مع الإحساس بأنهم آباؤنا. هل يمكن أن يحدث ذلك دون السقوط في فخ الأبوة.
ها أنا الآن أكتب عن أبي وأقول: أحتاج إلى بئر عميقة لا تصل إليها مياه الأعماق كي أطل على نسغ الأبوة في جسدي، أحتاج إلى أنفاس أبي التي تركها على فراش مرضه، على شرشفه وسريره، على نظارته، موبايله، ساعته، وعصاه التي يحبها بلونها الرصاصي. لكن قل لي - إذا ما وهبتني الكتابة للوصول إلى ما أحتاجه - هل بالإمكان معرفة آبائنا كما ينبغي قبل فوات الأوان.