في هذا الجزء المكمل للمقالة السابقة، التي تحدثنا فيها عن ادعاء امتلاك مكتبة منزلية، وكونها دليلاً على وعي واهتمام بالقراءة؛ سنركز على الجزء الآخر من الظاهرة المتعلقة بأحكام الناس من خلال استقراء ناقص في المجتمعات الشرقية. ففي المثال، الذي ذكرته في المقالة السابقة يقول صاحبه إن 58% من الناشئة، الذين تبلغ أعمارهم فوق 15 عاماً يمارسون القراءة بصورة منتظمة، اعتماداً على إحصاءات تصدر عن إدارة الإحصاءات العامة. وأقول إن الاضطراب يحيط بهذه المقولة من ناحية الشكل والمضمون؛ فأولاً لا يمكن لإدارة الإحصاء العامة أن ترسل أفراداً في الشوارع يسألون أولئك الشباب، هل هم يقرأون أم لا. وبفرض حصول ذلك، فإن دقة المعلومات وصحتها، وربما حتى فهم المستجوبين معنى القراءة؛ فقد يكون يقصد كتبه المدرسية، أو أنه يمسك كتاباً ويقلب أوراقه أو يطلع على الصور التي يحتويها.
منطلق مثل هذه الإحصاءات يفترض أن يكون في مؤسسات المتابعة في وزارة التعليم (للتعليم العام)، أو من مراكز وأقسام في الجامعات تعرف مفهوم القراءة، وتستطيع التحقق من كون الفرد يقرأ، أم أنه يدّعي أنه يقرأ. ومن خلال تجارب سريعة أجريتها على بعض الشعب، التي كنت أدرسها في الجامعة، اكتشفت أنه لا أحد تقريباً يقرأ كتاباً غير مقرر عليه في المدرسة أو الجامعة؛ وإن وجد، فإن نسبتهم ربما تتراوح بين 5 - 10%، وليس 58%، كما يدّعي صاحبنا نقلاً عن إدارة الإحصاءات العامة، إن صح النقل. بل إنه في إحدى الشعب لم يوجد أي طالب اعترف بأنه قرأ كتاباً خارج كتبه المقررة إلا واحداً، وعندما سألته عن مؤلف الكتاب أو العنوان، قال: «إن غلاف الكتاب كان ممزوعاً، فبالتالي لا يتذكر لا المؤلف ولا عنوان الكتاب». بالطبع لم أسترسل في سؤاله عن ذلك المضمون غير المرتبط بمؤلف أو عنوان. فهل هذه الأوضاع تشير إلى انتشار لظاهرة القراءة بين الشباب؟ علماً بأن ذلك الاستقراء، الذي كنت أقوم به كان قبل استفحال ظاهرة الاتجاه المفجع إلى الحياة الرقمية. فماذا نظن أن الوضع أصبح عليه، وكثير من الشباب -عندما تتحدث أمامه عن أهمية القراءة- يقول: مَنْ يقرأ الكتب الآن؟ إذ إنه بضغطة زر تستطيع الحصول على المعلومات. لكني أستفسر عما يقصدونه بضغطة الزر، وأكتشف أن المراد ليس كتباً إلكترونية أو موسوعات ومحتويات رقمية، بل البحث في جوجل أو اليويتيوب، مما يعني أنه حتى فكرتهم عن الثورة الرقمية لا تتجاوز استخدام الأجهزة للمحادثات أو التطبيقات، التي تسهّل عليهم البحث عن الأشياء أو الطلب أونلاين، وما أشبهها من تقنيات.
عودة إلى الحفر الثقافي الرأسي، وربط هذه الظاهرة بما كان يوجد عند أسلاف العرب من سلوكيات مشابهة في استخلاص الأحكام بسرعة وانتقائية، وعدم تحري الدقة أو الاعتناء بأي من تلك الأحكام، سواء من ناحية صحتها أو شموليتها أو عدم تناقضها. فكثير منا ربما قد قرأ، أو سمع عما كان يقوله كبار النقاد في أسواق الشعر الموسمية (مثل عكاظ والمجنة وذي المجاز)، عندما يسمعون شاعراً أو شاعرة أثناء إلقاء قصيدة، فيبادرون مباشرة بالحكم بأن هذا الشاعر (أو الشاعرة) أشعر العرب، أو أقوى ما قيل في الفخر أو المدح أو الهجاء، دون تروٍ منهم أو تمحيص.
عودة إلى الحفر الثقافي الرأسي، وربط هذه الظاهرة بما كان يوجد عند أسلاف العرب من سلوكيات مشابهة في استخلاص الأحكام بسرعة وانتقائية، وعدم تحري الدقة أو الاعتناء بأي من تلك الأحكام، سواء من ناحية صحتها أو شموليتها أو عدم تناقضها. فكثير منا ربما قد قرأ، أو سمع عما كان يقوله كبار النقاد في أسواق الشعر الموسمية (مثل عكاظ والمجنة وذي المجاز)، عندما يسمعون شاعراً أو شاعرة أثناء إلقاء قصيدة، فيبادرون مباشرة بالحكم بأن هذا الشاعر (أو الشاعرة) أشعر العرب، أو أقوى ما قيل في الفخر أو المدح أو الهجاء، دون تروٍ منهم أو تمحيص.