يقال عن الشعر أشياء متناقضة في التراث العربي؛ فهو «ديوان العرب»، كما تصفه شعاراتهم القديمة عن ارتباطهم اللصيق بالمدونات الشفاهية الإيقاعية، التي يساعدهم فيها الإيقاع والقافية على تذكّرها، وإعادة روايتها عند اللزوم. وفي الوقت نفسه، فإن الشعر مرتبط لديهم بخيال خالص، ولا يمت إلى الواقع الحياتي بصلة منطقية؛ بل هو تمثّلٌ لصور مجازية يتباهى منشئوها بكونها تعبيراً جديداً غير مألوف، ولا محدد في مرجعياته بما اعتاد عليه مستخدمو اللغة، لذا كان الشعار النقدي لديهم يقول إن «أعذب الشعر أكذبه»!
ومثلما أنه خيال محض، فهو أيضاً نتاج تعاون بين قائليه من البشر، ومريديهم من العالم غير المرئي؛ حيث ينبري أحد أفراد الكائنات الميتافيزيقية، التي يُطلق عليها في الثقافة العربية «الجنّ»، ليكون موحياً لشاعر أعجبه من البشر، فيجعله متحدثاً باسمه في المجتمع البشري.
ويطلق بعض دارسي الأدب العربي القديم على أقدم أنواع الشعر، الذي يمثله شعر الهجاء، بقايا «التصور الشاماني» قبل التاريخي للشعر. وقد استمر هذا اللون من الفنون الشعرية إلى العصر الأموي، حيث كانت تتوارث فيه سماته الشفاهية القديمة منذ أن كان شعراً غنائياً في العصور المبكرة. وفي هذا النوع من الشعر تتمثل السخرية بوصفها فناً أدبياً متميزاً من جهة، كما يحتوي أيضاً الأفكار القديمة عن القوة السحرية للكلمات المصوغة بقدرات عالية جداً نتيجة التعاون بين الشاعر، الذي يكون جسده كبقية أجساد البشر، مع الكائنات غير المرئية (الجنّ على وجه الخصوص)، التي تلقي على لسانه تلك الكلمات الموصلة إلى أفكار جديدة، ولها قوة سخط سحرية، من جهة أخرى.
فقد كان الشاعر في ذلك المجتمع العربي القديم شخصاً متعالياً على معارف عصره، وله صلات بالعالم الميتافيزيقي الغامض، ذي القدرات الاستثنائية، وخاصة الكائنات الخارقة للطبيعة، التي أصبحت تُدرج في الثقافة العربية ضمن مفهوم «الجنّ». ولذلك لم يكن الشعر لدى العرب القدامى فناً أدبياً لفظياً فحسب، بقدر ما كان استلهاماً لظواهر خارقة للطبيعة، ومستمدة من الاتصال المباشر بالأرواح المحجوبة، التي كان يُعتقد أنها تحوم في الجو.
ولم يكن «الجن» يتصلون بأي شخص كان، فكل واحد منهم له اختياره الخاص، وعندما يجد «جنيّ» إنساناً يثير إعجابه (أو إعجابها)، فإنه ينقضّ عليه، ويطرحه أرضاً، راكعاً على صدره، ويجبره على أن يصبح الناطق بلسانه في العالم؛ وقد كان هذا هو الطقس الشعائري للشعر. ومنذ تلك اللحظة فصاعداً، يصبح الرجل يُعرف بوصفه «شاعراً» متمثلاً لتلك القيم وذلك العقد بين الطرفين، بكل ما في هذا الوصف من دلالات. وبهذا تأسس نوع خاص من العلاقة الشخصية الحميمة جداً بين الشاعر والجنّ. وقد كان لكل شاعر جنّيّه الخاص، الذي يتنزل عليه من حين إلى آخر ليمنحه الإلهام والوحي بأفكار جديدة، وربما ثورية في عصره؛ من أجل ذلك كان الشاعر يدعو جنّيّه «الملهِم» أو «الخليل». ولم تكن تلك العلاقة عابرة، بل إن الجنّيّ الذي يرتبط بشاعر معين يصبح معروفاً باسم علم محدد ومتداول في بيئة الشاعر، وبين نقاد عصره. فعلى سبيل المثال، كان جنّيّ الشاعر الجاهلي الأعشى له اسم شخصي هو «مِسْحَل» (ومعناه سكين التقطيع الكبيرة)، في إشارة رمزية إلى لسانه البليغ المطبوع. وفي الجزء التالي نتحدث عن تطورات الوعي في تلك الثقافة القديمة.
ويطلق بعض دارسي الأدب العربي القديم على أقدم أنواع الشعر، الذي يمثله شعر الهجاء، بقايا «التصور الشاماني» قبل التاريخي للشعر. وقد استمر هذا اللون من الفنون الشعرية إلى العصر الأموي، حيث كانت تتوارث فيه سماته الشفاهية القديمة منذ أن كان شعراً غنائياً في العصور المبكرة. وفي هذا النوع من الشعر تتمثل السخرية بوصفها فناً أدبياً متميزاً من جهة، كما يحتوي أيضاً الأفكار القديمة عن القوة السحرية للكلمات المصوغة بقدرات عالية جداً نتيجة التعاون بين الشاعر، الذي يكون جسده كبقية أجساد البشر، مع الكائنات غير المرئية (الجنّ على وجه الخصوص)، التي تلقي على لسانه تلك الكلمات الموصلة إلى أفكار جديدة، ولها قوة سخط سحرية، من جهة أخرى.
فقد كان الشاعر في ذلك المجتمع العربي القديم شخصاً متعالياً على معارف عصره، وله صلات بالعالم الميتافيزيقي الغامض، ذي القدرات الاستثنائية، وخاصة الكائنات الخارقة للطبيعة، التي أصبحت تُدرج في الثقافة العربية ضمن مفهوم «الجنّ». ولذلك لم يكن الشعر لدى العرب القدامى فناً أدبياً لفظياً فحسب، بقدر ما كان استلهاماً لظواهر خارقة للطبيعة، ومستمدة من الاتصال المباشر بالأرواح المحجوبة، التي كان يُعتقد أنها تحوم في الجو.
ولم يكن «الجن» يتصلون بأي شخص كان، فكل واحد منهم له اختياره الخاص، وعندما يجد «جنيّ» إنساناً يثير إعجابه (أو إعجابها)، فإنه ينقضّ عليه، ويطرحه أرضاً، راكعاً على صدره، ويجبره على أن يصبح الناطق بلسانه في العالم؛ وقد كان هذا هو الطقس الشعائري للشعر. ومنذ تلك اللحظة فصاعداً، يصبح الرجل يُعرف بوصفه «شاعراً» متمثلاً لتلك القيم وذلك العقد بين الطرفين، بكل ما في هذا الوصف من دلالات. وبهذا تأسس نوع خاص من العلاقة الشخصية الحميمة جداً بين الشاعر والجنّ. وقد كان لكل شاعر جنّيّه الخاص، الذي يتنزل عليه من حين إلى آخر ليمنحه الإلهام والوحي بأفكار جديدة، وربما ثورية في عصره؛ من أجل ذلك كان الشاعر يدعو جنّيّه «الملهِم» أو «الخليل». ولم تكن تلك العلاقة عابرة، بل إن الجنّيّ الذي يرتبط بشاعر معين يصبح معروفاً باسم علم محدد ومتداول في بيئة الشاعر، وبين نقاد عصره. فعلى سبيل المثال، كان جنّيّ الشاعر الجاهلي الأعشى له اسم شخصي هو «مِسْحَل» (ومعناه سكين التقطيع الكبيرة)، في إشارة رمزية إلى لسانه البليغ المطبوع. وفي الجزء التالي نتحدث عن تطورات الوعي في تلك الثقافة القديمة.