ذلك الوضع وضع معايير (الأمة) الوطنية ومنها الثقافة المشتركة أرض يتم الانتماء إليها نظام أو سلطة مشتركة وتاريخ مشترك للجماعة وحب أبناء الوطن الواحد بعضهم البعض، والمفارقة هنا أن الدولة الوطنية الحديثة أنهت السلطة الدينية ولولا انهيار تلك السلطة لما جاءت هذه الدولة، وبالتالي فإن الدين الذي يتم استخدامه في السياسة أو استخدام السياسة في الدين ينتهي حتما إلى مزالق تضعف معها الدولة والجماعة الوطنية.
القياس الذي نراه في الدولة الدينية الحالية في عدد قليل من دول العالم لم يتجه بالجماعة الوطنية إلى استقرار أو أمن وإنما استبداد وتخلف جعل كامل المنظومة المجتمعية في هاوية اقتصادية وإنسانية من جهة، وقنبلة موقوتة من خلال عسكرة الدولة وتعبئتها بصورة تتصادم مع مقتضيات الأمن والأمان، وذلك أن استخدام الدين في السياسة وبناء الدولة غالبا ما يقود إلى تشظّي وتمايز الجماعات الوطنية وتحديدها دينيا ومذهبيا بصورة قاطعة.
هذا البناء المجتمعي للدولة الدينية يتمثّل بصورة جلية في نظام إيران القائم على ركائز مذهبية لا يمكنها أن تنتهي بأمن وسلام للجماعة الوطنية، فهناك تمييز مذهبي فاضح يغلب فيه مذهب حاكم على حساب بقية المكونات المجتمعية، وذلك يستدعيه استبداد السلطة السياسية التي تحتاج إلى بقاء هذا التمييز لأنه يمنحها الولاء من المذهبيين الذين تنشأ لديهم نزعات متطرفة تبقيهم إلى جوار السلطة وحمايتها للاعتقاد بأنها ملاذ الأمن والأمان الوطني.
ذلك ببساطة غير صحيح وهو جزء من الأوهام التي تعمل الدولة على تغذيتها في الوسط الاجتماعي والمذهبي على حساب بقية الركائز الوطنية، فالدولة الدينية تنظر إلى من هم على خلاف ديني أو مذهبي معها بنظرة غير منصفة تعزز التمييز والكراهية، وهي تفعل ذلك بدافع من تمكين سياسي يلتقي مع طموحات توسعية تتعلق بالإمبراطورية الفارسية وإنتاج كسرى جديد في العصر الحديث.
فكرة التوسع لابد وأن تكون وراءها دولة مستبدة دينيا أو تقوم على أوهام دينية أو اجتماعية أو عرقية، كما فعل هتلر مع الجنس الآري غير أنه انتهى منتحرا وانتهت معه أحلام وأوهام سيادة الجنس الآري، وفي سبيل ذلك حرق ملايين اليهود من منظور ديني، وذات الأمر تفعله إيران مع الجماعة السنية التي تجعل منها عدوا يؤخر طموحاتها الإمبراطورية التي تجعلها تميل إلى تصدير الثورة واستقطاب مزيد من المتطرفين إليها.
لم تنجح هذه المساعي التي تجافي المنطق سواء في حالة إيران أو تعاطي تركيا مع الأكراد أو نظام الأسد مع غيره من المخالفين مذهبيا، لأن الدولة الحديثة في الواقع أكبر من أن تستقر وهي تُدار بعقلية توسعية واستبدادية فذلك ضد المنطق السياسي والتاريخي، وعبر التاريخ لم تنجح إيران في أن تتمدد خارج حدودها إلا شغبا أو فوضى في غيرها.
في اعتقادي أن إيران يوما ما ستجد أن النظام السياسي السعودي الذي يحترم متطلبات الدولة الوطنية الحديثة هو الأنسب في تعاطيه مع مكوناته المجتمعية بمعايير واحدة تبسط الفكرة الوطنية لدى الجميع دون تمييز، وكل مواطن يتمتع بحقوقه كاملة ويؤدي واجباته تجاه وطنه، ما يجعل السعودية مستقرة وآمنة وإيران ملتهبة وعلى صفيح ساخن.
المقارنة السياسية بين المملكة وإيران تجعل إيران بعيدة عن الدولة الوطنية وجمهورية دينية هشة تستعصم بالاستبداد والعجرفة لإخفاء الأوهام التوسعية والتمييز الحقوقي والديني والمذهبي الفاضح في سلوك السلطة تجاه مواطنيها، ولم يكن السنة وهم الغالبية المجتمعية في المملكة لديهم ما يفوق نظراءهم من أبناء الوطن الشيعة، فيما العكس تماما في إيران التي يبدو وضوح تمييزها لمواطنيها بما لا يتوافق حتى مع أبسط قواعد الأديان والأعراف المجتمعية والإنسانية.