فهل العملية برمتها مقبولة، بأن يسير المرء في قالب مصنوع مسبقا من البيئة الاجتماعية المحيطة به، ومن الخلفيات الثقافية التي تتأثر ذائقته بها، وأيضا من اللغة التي توقع المرء في حبائلها الكثيرة، من أجل أن يرى أنّ هذه هي الطريقة الوحيدة لخلق التواصل دون إمعان النظر والتأمل في كيفيات أخرى؟ وأكثر من ذلك: هل يعي الفرد العادي المستخدم لأي من قنوات التواصل أنه ينساق إلى محددات أخلاقية بعينها، وأنه في كل ظرف هناك دوائر لا تخرج عنها خيارات أغلب الناس في الظروف المتشابهة؟ وربما نجرؤ على القول: ألا يوجد تمرد على هذه الأطر، وكيف يكون مصير مثل أولئك المتمردين؟
في الواقع الناس في كل دائرة ثقافية، سواء أكانت من الدوائر الكبرى: العرقية والدينية والاقتصادية أو من البيئات الصغرى: المهنية والأواصر الاجتماعية والأوضاع النفسية أو الطبقية، يحكمها منطق معين في الحكم على الأشياء، ولا تتفاوت محصلة عمليات الاستنتاج والاستقراء كثيرا عند استخلاص مبررات النزعة الأخلاقية المطلوبة أو المتوقعة في كل حالة من حالات السلوك عند التعامل مع الواقع المتغير. وتزيد اللغة الأمر سوءا بأن تحرّض بطرق فجة أحيانا على أن اختيار تلك القوالب المؤطرة اجتماعيا وثقافيا، وربما دينيا أو عرقيا أو مهنيا، هو شرط للانتماء إلى تلك الجماعة، وقبول الإيتكيت الجمعي الذي تفرضه قوانينها العرفية. أما فيما يخص وعي الأفراد بهذا الانسياق الأعمى، فعملية الجزم فيها ليس سهلا؛ لأن المرء في كثير من الثقافات المهيمنة على المنتمين إليها لا يفصل كثيرا بين ما اختاره هو بنفسه من قرارات، وما يجد نفسه مندفعا إليه بأثر من مسوغات ليست منطقية، لكنها تنبعث من داخله وكأنها صادرة عنه شخصيا. ولا تختلف النتيجة كثيرا عن البواعث في مسبباتها، كما أن الصرامة في التعامل مع الأفراد المنضوين تحت المظلة الاجتماعية أو الثقافية تجعل المتمرد على تلك المعادلات يُنظر إليه بوصفه ناقصا في التبعية إلى المجتمع، وربما صدرت قرارات أو مسلّمات عرفية، بأنه تنقصه الرؤية السوية، أو حتى أنه لا يتمتع بقوى عقلية متزنة. وبعض أولئك المتمردين جرى نعتهم بالمجانين أو الخونة أو المنسلخين عن مجتمعاتهم والمتأثرين بحملات الغزو الفكري من ثقافات أخرى غير متجانسة مع الثقافة المحلية. وقد تك