لم تكن الموسيقى أو المسرح يوما خصما على حضارة أو ثقافة أو تطور مجتمع من المجتمعات، وإنما هي عوامل مهمة في تحقيق التقدم والنهضة التي تضيف للإنسانية باعتبار أن هذه العوامل تدعم العمليات الإبداعية للأفراد وتكتشف المواهب الكامنة في الذات، وليس لها أي تعارض حقيقي مع مقتضيات الفرد في حياته وأنشطته المختلفة، وإنما هناك صورة شائهة عن تضاد غير منطقي مع الموروث فيما العكس هو الصحيح حين نعود إلى التاريخ ونجد أنه في عصور كثيرة كانت مجتمعاتنا في الجزيرة العربية ومحيطها ذات حراك ثقافي وإبداعي مهم وملهم وله أثره في كثير من الشعوب. المسرح هو أبو الفنون، وقديما قيل «أعطني مسرحا أعطك شعبا»، وهو قول مجازي يعني الارتقاء بالسلوكيات الفكرية والحضارية والمدنية للمجتمعات، إذ أن المسرح يطلق الطاقات الإبداعية ويدعم كل أعمال الفكر والتدبر والانطلاق في الحياة برؤية مفتوحة وأفق يتسع لكل المتناقضات واستيعابها في قالب المنطق والتقدير الخاص وليس التلقين والنمطية التي تجعل الذات مرتبكة وملتبسة وغير قادرة على تحديد المنطقي من غير المنطقي إلا بمرجعية خارجية، ما يعني في المحصلة تعطيلا للعقل. لا يمكن النظر إلى المسرح والثقافة والفنون بما فيها الموسيقى من زاوية ضيقة تضعها في خانة التجريم أو المحرمات على الإطلاق، فهذه الفضاءات الإبداعية من موهوبات البشر حين يكون الفرد عازفا للكمان أو العود أو البيانو أو ممثلا في مسرح يقدم أعمالا هادفة ترتقي بالذائقة وتحفز الفرد على تقديم الأفضل لنفسه ولغيره، وتجعله يكتشف الحياة بأكثر من منظار، ويعرف أين موطئ قدمه وكيف يمكن أن يستفيد من الرسالة الفنية الجميلة في نص مسرحي أو معزوفة موسيقية أو قطعة فنية. من يرسم بريشته لوحة جمالية رائعة، أو يعزف مقطوعة موسيقية مذهلة، أو يمثل دورا في مسرحية هادفة، لم يكن له أن يفعل ذلك لو لم يمتلك تلك الموهبة الربانية، فلماذا يعطلها؟ أو يلغيها أو يقصيها ولا يتمتع بها أو يمتع بها غيره؟ لننظر إلى تاريخ الفنون فقط في عصور مجتمعات لمئات السنوات سنجد الموصلي وغيره قدموا الكثير الذي أسهم في تقديم رؤية حضارية وإنسانية راقية لم تعطل أحدا عن أداء ما قد يظن البعض أنه يتعارض مع موروث أو يشغله عن فعل آخر. الحياة قائمة على التوازنات، وهي مليئة بالتفاصيل، وقد خلقت لنحياها بكل ما منحنا الله من جماليات في أنفسنا، وليس أن نضعها في أرفف ويعلوها الغبار أو نئدها كما كان يفعل أهل الجاهلية مع الإناث، ولا يمكن تصور أن الفنان التشكيلي أو الموسيقي أو الممثل المسرحي أو غيره كل يومهم وساعاتهم هي عزف ورسم وتمثيل، وإنما ذلك جزء من طبيعتهم وحياتهم التي يعملون فيها ويسهمون في تقديم أروع ما لديهم لإسعاد الآخرين ونشر البهجة في أنفسهم. لذلك كله من الجميل أن تمضي وزارة الثقافة في تنسيقها مع وزارة التعليم لإدراج الموسيقى والمسرح والفنون في مناهج التعليم، وأن يكون لوزارة الثقافة التصريح للمعاهد والجامعات والكليات والمدارس الأهلية للبرامج والأنشطة والمسارات التعليمية المستحدثة في الثقافة والفنون، وتفعيل واستخدام وتشغيل مرافق وزارة التعليم كالمسارح المدرسية والجامعية، فالموهبة موجودة لدى جميع تلك الأجيال ويجب أن تجد المحفزات والبيئات التي تساعدها في اكتشافها وتطويرها والانتقال بها في مسار الرسالة الفنية والإبداعية التي تقدم السهل الممتنع للمجتمع وتجعل أيامه أكثر تنوعا وثراء بمعطيات الفنون وإبداعاتها، وذلك جزء مهم من فكرة التوازن في الحياة والاستمتاع بكل تفاصيلها.