تدلهمّ الخطوب من حولنا في شرقنا الشقيّ، وتزداد الظروف الجيوسياسية تعقيداً، وتظهر علامات على حدوث عواقب لبعض أفعال مشينة كانت تمر دون عقاب. فهل تبدلت الظروف، وحمي الوطيس، واقتربت ساعة المحاسبة على ما كان يُظن بأنه إطلاق يد العبث في مصير الشعوب الشرقية، وقيادتها إلى حالة البؤس والحروب والدمار والحرمان؟ تضافرت القرائن التي تشير إلى شيء من هذا القبيل؛ فقبل سنوات قليلة لم يكن أحد يظن بأن البلدان الإقليمية الكبيرة ذات الأجندات الدينية، وعلى وجه الخصوص إيران وتركيا، يمكن أن تتعرض للعقوبات الاقتصادية والمحاصرة السياسية والتهديدات الجدية من قوى العالم الحرّ. فقد بدأت سلاسل الإدانات وحصر الجرائم الجنائية تتوالى ضد تركيا من جهة (في شأن إبادة الأرمن في مطلع القرن الماضي، وبشأن التهجير القسري والتغيير الديموغرافي في مناطق الأكراد في شمال سوريا)؛ والأمر نفسه بورود بيانات شديدة اللهجة من الطرف الأوربي الذي يحمي الإيرانيين من المطرقة الأمريكية بشأن مخالفات إيران المتعلقة بالتنصل من التزاماتها النووية، وإثارتها الفوضى والفتن في بلدان الجوار العربية. فقد تغير الوضع كلياً؛ ففي حين تنتفض كل من لبنان والعراق للتخلص من هيمنة الاستعمار الإيراني عبر الوكلاء في البلدين، تجري أيضاً محاصرة تركيا واتهامها بغزو شمال سوريا، وتواجه قرارات جماعية قوية من الاتحاد الأوربي، ومن شركائها في حلف الناتو، ومن الشريك الفاعل في مسرح الأحداث (الولايات المتحدة الأمريكية). فقد جرى وضع النقاط على الحروف في كثير من قضايا المنطقة، ووضع النقاط يمكننا من قراءة الحروف؛ لكن الحروف بمفردها لا تصنع الكلمات. فهل قراءتنا للكلمات والنصوص، مماثلة أو مقاربة لقراءة صنّاع تلك النصوص؟ فقبل مائة عام كانت هناك جولات لإعادة كتابة التاريخ، وصناعة الجغرافيا الحديثة، واليوم تشير بعض الإرهاصات إلى نضج الظروف للعودة إلى الإعادة والتقسيم والتشكيل. فقبل سنوات قليلة كان حصان طروادة هم جماعة الإخوان المسلمين، وأعدت العدة لذلك، ولكن قرارات اتخذت في وقتها أفشلت تلك الخطط. لكنه في عالم السياسة لا يعني فشل الخطة عدم إعادة صياغتها بوسائل مختلفة. أتمنى أن نتعلم القراءة جيداً، وأن نجيد مهارات جمع القرائن المتباعدة وتأويل دلالات المستندات التي نتلقاها يومياً بأعداد وفيرة، لكي نكون مستعدين لكل الاحتمالات. فالتاريخ لا يرحم الأغبياء، ولا يسامح من لا يتعلم من أخطاء أسلافه ومجايليه، ولا يجيد اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب تماماً، دون تأخير ولا تقليل ولا تهويل. والمؤكد أيضاً أن لا أحد يعلمك القراءة في أوقات الجد العصيبة، إن لم تتعلمها في فترات الرخاء وطول البال، وبأيدي المحبين والمخلصين، لا المستغلين والمنتهزين. كما يحدوني الأمل بأن تتسع رقعة الشك في بعض ما يقال في العلن بشأن السياسة؛ فأمور السياسة الفعلية لا تدار في العلن، بل في دهاليز شديدة الغموض، وذات مصداقية ضعيفة، لا تثبت على حال، ولا يتردد أصحابها في نقض ما يؤكدونه في أيام خلت. لا أريد أن أكون متشائماً، ولا سوداوي الرؤية، لكني أرغب في أن نستوعب ما كان يصرخ به أحد أسلافنا قس بن ساعدة الإيادي في كلماته الشهيرة قبل أكثر من خمسة عشر قرناً: "أيها الناس، اسمعوا وعوا!"، وأركز على الأخيرة؛ فقد أكثرنا من الإنصات، لكن أظن بأننا بحاجة إلى الفعل الآخر!