الذين يستعجلون أمر الكتابة، ولا يعطون الحوذي فرصة في التقاط أنفاسه، ولا لخيوله فرصة للراحة، ولا يبدلون أمكنتهم في الحل والترحال، هم لا يريدون المعنى المشتق من الإرادة، ولا النظرة المفتونة بالآفاق البعيدة، ولا الرغبة التي تمشي مثل مدرعة، ولا الحب الذي يتخلص من صقيعه بلمسة، ولا الخطوة التي لا تغادر ثكنتها العسكرية دون خطط مسبقة.
الذين يستعجلون أمرها دائما ما يطؤون بأقدامهم الأعشاب الضارة، ودائما ما تلسعهم حشرات الحقل ولا تترك لهم موضعا لا تضعف فيه مناعتهم عن قول كل ما لا ينبغي قوله، ومن ثم كتابته.
يمضون في الطريق إلى آخر الحقل وكأنهم في نزهة وليست الكلمات عندهم سوى أشجار للزينة. يمضون وكأن شيئا لم يكن. يكتبون وكأن شيئا لم يكن. ثم يغادرون الحياة وكأن شيئا لم يكن. ثم لا شيء بعد ذلك سوى الصمت الذي ينتسب إلى عار اسمه: الكاتب.
بينما الذين ينامون في أحضان لغتهم، ولا يعيرونها لفتة واحدة على الأقل من الانتباه، ولا يطلبون منها سوى التسكع في طرقاتها وحاراتها، ولا يهتمون بنظافة بيوتها وجدرانها، ولا يهتمون سوى بالصعاليك من أصدقائهم ومن حبيباتهم، ولا تتدفق على ألسنتهم سوى ما صعد على أسنتهم من لهب المعنى، سوى ما تبقى من سارية المركب المتروك وحيدا في البحر، سوى ما قاله الرجل الأول حين أراد الخروج من رحم اللغة: خذوا الكتابة عارية، واتركوا ملابسها على تلة عالية، حتى لا يصل إليها أي واحد منكم إلا بعد الضياع الذي يوشك على الهلاك.
أكتب وأقول العالم مأخوذ برموزه، أبرر أفعاله وأقول هناك سينقطع الحبل وينتهي كل شيء، لكنني أقول في قرارة نفسي: سأضع هذه الكلمة مثل قنبلة تحت هذا الجسر وحين يعبر العالم كله سأضغط الزر، وأنهي كل شيء.