لقد باعنا (الجوال) إلى شركات صناعة الخدمات، وشركات الغذاء، وشركات الدواء، وكل شركات الاستهلاك التي تبني سياساتها التسويقية على معرفة عادات ورغبات المستهلكين، وباعنا قبلها إلى مراكز صياغة وصناعة الاستعمار الجديد، وإلى ما نعلمه ومالا نعلمه، حوّلنا إلى بضاعة وتاجَر بنا، لكن كل هذا على أهميته ليس مهمًا، نعم.. ليس مهمًا، لأن هنالك ما هو أهمّ، على الأقلّ من وجهة نظري شديدة التواضع، وهو استغلال هشاشتنا الثقافية ببناء الثقافة التي يريدها لنا، وإلا فما الذي تكسبه شركة «الفيس بوك» من مجانية «الواتساب» على سبيل المثال، عدا تجارة المعلومات التي تبيعها على شركات وحكومات صناعة الاستعمار؟، ما هو المقابل لهذه الخدمة الاتصالية المتاحة لكافة سكان الأرض، وحتى ركاب الطائرات، ودون أي مقابل؟. ألم نستفق بعد أن هذا (الواتساب) اللعين بات يغرس فينا ثقافة مهزوزة، حينما يتيح للجميع تسويق الجهالات والحقائق كتفًا بكتف بإناء واحد، ويُتيح للأشباح بـفكرة «رسالة محوّلة» أن يخلطوا الغث والسمين للبسطاء وبما يوهمهم أنه المعلومة القابلة للبلع كقضمة آيسكريم، فيما لا يبالي في محتواه في مزاحمة الشيء ونقيضه ليصنع فينا ثقافةً هشّةً ومشوهة، قوامها البلبلة، لا تفتقر إلى العمق والثقة وحسب، وإنما تفتقر إلى الصمود ليؤسس لنا عقلية القطيع التي تجعلنا أكثر انقيادًا إلى مراعيه؟!.
قبل أن أشرع في كتابة هذا المقال، عليّ أن أعترف وأنا بكامل إرادتي الثقافية أنني لم أشفَ بعد من نظرية المؤامرة، رغم نصائح الكثير من الليبراليين، والمطبّعين، والمطيعين، ورغم كساد سوقها في زمن حكم الأقوياء الذين فرضوا على كوكب الأرض وناسه، ليس فقط ثقافتهم، ولسانهم، وإنما حتى طبائعهم، وقيمهم، ومأكولاتهم، و«برجرهم»، وأغانيهم، وفنونهم، ورياضاتهم. لم أشفَ منها رغم أنها أصبحتْ تشعرني بأني صرتُ كضالة الوادي لا يصل إلى سمعها سوى رجع صدى صوتها، بعد هزيع العمر الذي تجرّع كل ألوان الرّيَب وبعد ما يربو على ستة عقود، تأسس فيها بنيان وعيي البسيط على ألاّ شيء يتمّ في هذا العالم بالصدفة، و «أن الطريق إلى جهنم معبّد بالشهوات»، مؤمنًا أن النوايا الحسنة ليست هي كل ميراث هذا الإنسان، ولا ينبغي أن تكون.
أطلتُ التقديم، رغم قِصَر الموضوع، ودنُوّ شأنه، خاصةً وأن حديثي سيكون عن هذا الذي أصبح ألصق بنا من بعض أعضاء أجسادنا، دون أن نستطيع الفكاك منه، هذا الذي يشاركنا مناماتنا، وأكلنا، وشربنا، وصحونا، وغفوتنا، هذا الذي نحسبه صار سكرتيرنا، ومستودع أسرارنا، فيما هو الجاسوس الأليف الذي يغوينا فنطيعه، ونبوح له بكل سرائرنا، ونستودعه نقل رسائلنا، ووشوشاتنا، هذا الذي تصعقنا فواتيره، وتقصم ظهور معاشاتنا ومع هذا نقدّم سدادها على مصروف طعامنا وشرابنا، كما لو أننا نستسلم لسحرٍ لا يُرجى شفاؤه، هذا الذي يحني رقابنا حتى اخترع لنا مرضًا ارتبط باسمه، هذا الذي نمرق خلاله لنشبع بعض نزواتنا في مشاهدة ما نستحي أن يعرف أحد غيره أننا نشاهده، مما يخدش وقارنا، أو يزلزل مهابتنا، هذا الذي يجمع الكون كله بين أطراف أصابعنا، حيث ننغمر فيه فلا نشعر بمن وما حولنا، ونسكر في خمرة خياراته، فيما هو يفرض علينا قِيَمه، ويملي علينا شروطه، وثقافته.