لم تختلف مخرجات قمة برلين حول التطورات في ليبيا التي عقدت في برلين (20 يناير 2020) كثيرا عما تمخضت عنه كل المؤتمرات الدولية السابقة حول ليبيا، فقد تم التأكيد على احترام حظر إرسال الأسلحة الذي فرضته الأمم المتحدة عام 2011، وقف العمليات القتالية وخفض التصعيد والتزام «وقف دائم لإطلاق النار» في البلاد. هذه الأمور أو النقاط التي تم التأكيد عليها في القمة، هي أشبه ما تكون نسخة مطورة عن اتفاق الصخيرات الذي فشل في إيجاد حل دائم وشامل للأزمة الليبية. لكن الملفت في هذا المؤتمر يتمثل في المتغير التركي، فالبيان في أكثر من نقطة كان يشير إلى التجاوزات التركية وتدخلها غير المقبول في الصراع الليبي مثل بند وقف تقديم السلاح، والبنود التي أشارت إلى الميليشيات القادمة من سوريا. فاحترام حظر الأسلحة وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، يرسل رسالة واضحة إلى تركيا التي تقدم الدعم الواضح لحكومة «الوفاق» من خلال تزويدها بالمساعدات العسكرية والأسلحة وإرسال ما يصل إلى أكثر من ألفي مسلح من فصائل سورية تعمل تحت إشراف تركي. وقد طالب الرئيس الفرنسي ماكرون، أنقرة صراحة بالكف عن إرسال «المرتزقة» إلى ليبيا. وفي حال استمر أردوغان في توريد الأسلحة والمرتزقة إلى ليبيا فسيكون في عداء ومخالفة صريحة للقانون الدولي. خاصة إذا تم إرسال إعلان برلين إلى مجلس الأمن وأخذ صيغة ملزمة.
كذلك فإن تأكيد الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس، من أن «أوروبا مرشحة للعب دور مهم في إعادة إعمار ليبيا»، هي ضربة أخرى موجعة لتركيا التي تسعى من خلال تدخلها في ليبيا للاستفادة من صفقات إعادة الإعمار في لبيبا والتي تقدر بحوالي 18 مليار دولار. حيث ترغب تركيا في الاستحواذ على أكبر قدر ممكن من هذه المشاريع، مما يمكنها من تنشيط وتيرة شركات المقاولات التركية، وبالتالي ينعكس بالإيجاب على الاقتصاد التركي الذي يعاني من ضعف شديد خلال السنوات الماضية. فضلا عن تعويض الخسائر الاقتصادية التي تعرضت لها تركيا في ليبيا بعد سقوط نظام «القذافي»، والتي بلغت قيمتها 15 مليار دولار، سواء بسبب تدهور الأوضاع الأمنية أو بسبب قرار حكومة الشرق الليبي إيقاف التعامل مع الشركات التركية بسبب دعم تركيا للإسلاميين في الغرب. وتجدر الإشارة إلى أن هذه المشاريع كانت أحد الأسباب الرئيسية لتأخر تأييد تركيا للثورة الليبية. وبالتالي فقد حطم المؤتمر آمال تركيا ومطامعها في مشاريع إعادة الإعمار والتجارة.
الأمر الثالث أن المؤتمر حطم طموحات أردوغان في الاستحواذ على غاز البحر المتوسط، من خلال الضغوط العربية والأوروبية التي مورست على المؤتمر من أجل تجميد الاتفاقية الموقعة بين تركيا وحكومة السراج. فاتفاق ترسيم الحدود بين ليبيا وتركيا، يوفر نصيبا للأخيرة من موارد الغاز الطبيعي تحت مياه البحر المتوسط، من خلال توسّع منطقتها الاقتصادية الخاصة حتى باتت تُلامس تلك الخاصة بليبيا. وقد استبق الاتحاد الأوروبي قمة برلين بتحذير تركيا من أي عمليات غير مشروعة للتنقيب عن المحروقات في شرق المتوسط، خصوصا في المياه القبرصية. وقد أعلن مسؤول السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل الإثنين (20 يناير) أن وزراء الخارجية في الاتحاد أوصوا بإعداد قائمة عقوبات ضد تركيا وتحديد أسماء المسؤولين والكيانات.
وتعدّ منطقة شرق المتوسط من المناطق الغنية بالغاز الطبيعي، وتقدّر هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية مخزونات الغاز الطبيعي في تلك المنطقة بـتريليونات الأمتار المكعبة، التي تساوي قيمتها مئات المليارات من الدولارات، فضلا عما تحتويه من الملايين من براميل النفط. وقد بدأت تركيا مؤخرا في التنقيب عن النفط والغاز في هذه المنطقة، مما أثار نزاعا كبيرا، حيث اعتبر الاتحاد الأوروبي تلك الأنشطة غير قانونية ومنذ تلك اللحظة تطورت المنطقة إلى منطقة نزاع في السياسة الدولية. وتجدر الإشارة إلى أن الاتفاق التركي - الليبي جاء في إطار رد أنقرة على الاجتماع الذي عُقد في القاهرة في يوليو 2019 بين ممثلين عن مصر والأردن وإسرائيل واليونان وقبرص وإيطاليا والسلطة الفلسطينية، والذي تمّتْ فيه الدعوة لتدشين منتدى لشرق المتوسط حول الغاز في يناير2020 باستثناء تركيا.
وختاما، فإن سمسار الأزمات أصبح الآن في مواجهة المجتمع الدولي، حيث فضح المؤتمر المخطط التركي في دعم حكومة الوفاق عبر المرتزقة والأسلحة في محاولة منها لتحويل ليبيا إلى دولة فاشلة ثم التوسع في مفاصلها للسيطرة على النفط الليبي وغاز البحر المتوسط، والاستفادة من مليارات إعادة الإعمار والتجارة.