والمؤكد أن هناك الكثير من المقترحات والتوصيات المبسوطة بوفرة في الدورات القيادية والإدارية، وكذلك في بطون الكتب المتعددة، ومناهج التعليم الجامعي المتخصصة، بالإضافة إلى الخبرة التي تأتي بالتدرج من خلال تراكم السنوات الوظيفية، ولكن ليس هذا الموضوع أو بيت القصيد من هذا المقال. إن المقصد الرئيس هو ما الذي سيذكره الناس بعد رحيلك من المنصب والكرسي؟ (سواء أكان المنصب صغيرا أو كبيرا فالمبدأ واحد)؛ لأن تلك هي سنة الحياة التي لا مناص منها أبدا، فلا أحد منا مخلد في المنصب.
وبناء على ما سبق لو وضعنا في ذهننا من أول يوم لتولينا المنصب فكرة الذكرى أو الأثر الذي سيتحدث به الناس بعد ترك المنصب لكان دافعا ووقودا مهما وملهما. فعلى سبيل المثال العالم ابن حزم -رحمه الله- تولى مناصب رفيعة المستوى أيام الدولة الأموية في الأندلس، ولكن أغلب الناس لا يعرف ذلك, ولعلي استطرد في هذه النقطة المهمة حيث قال الإمام والعالم الفذ الشافعي -رحمه الله-: ما ناظرت أحدا إلا وتمنيت أن يكون الحق على لسانه. وتلك منزلة رفيعة في سلامة الصدر وحب الخير للناس ولا يصل إليها إلا المجاهدون للنفس وحظوظها. ومن يصل إليها، فإني أضمن له أنه سيعيش هنيئا وسيرحل عنا يوما وهو سعيد! وهذه المنزلة التي ذكرت (سلامة الصدر وحب الخير للناس) ستساعدك على الفرح الحقيقي. وجاك ويلش (مؤلف ورئيس سابق لشركة جنرال الكتريك) قال: لابد أن تفرح لنجاحات الآخرين.
وفي زمننا هذا تحدث غازي القصيبي -رحمه الله- في كتابه المدهش «حياة في الإدارة» عن أهمية الأثر بعد ترك المنصب فقد قال: «وماذا أعطتني المؤسسة (كان المدير العام لمؤسسة سكة الحديد)؟ أعطتني حبا متبادلا من زملاء العمل ما زال باقيا حتى اللحظة، وأعطتني أكثر من درس قيم في الإدارة».
فالمسالة لو تأملناها ونظرنا إليها بشمولية أوسع، هي أكبر بكثير من إصدار أوامر وقرارات، فالتعامل مع البشر وقيادتهم بحد ذاته تحدٍ كبير، فهم في الغالب عاطفيون حتى ولو أظهروا غير ذلك! ويصلح لهم الرفق في غير ضعف ولا تهاون، والحزم في غير عنف ولا ظلم، وتلك هي القيادة الإنسانية. ومما أذكر جيدا في مسألة تأثير وأهمية (الذكاء العاطفي) أني حضرت حفلة توديع لأحد المتقاعدين فقال: الذي سيبقى بيني وبينكم ليس المشاريع التي أنجزناها معا، بل الذكرى والعلاقات الحسنة التي قامت بيننا.
إن المقياس الحقيقي والفعلي هو الرصيد الممتد الحسن لنا بين الناس بعد الرحيل من المنصب أو من الدنيا. وليس المقياس السلم الوظيفي الذي نرتقيه أو نصل إليه. فسُلّم الذكرى الحسنة هو أطول عمرا وأبقى أثرا وأكثر نفعا، وهنا تسكن راحة البال.