ألا تتفقون معي أنهم بهذه الثقافة بنوا حضارتهم؟ وبمثل هذا الفرز المهيب ما بين الخصال والسلوك العابر عززوا بناءها، وبهذه القدرة على إنصاف بعضهم، وهذا التفريق الحاسم بين ما هو سمة للشخصية، وبين ما هو مجرد رد فعل استطاعوا أن يذهبوا بحضارتهم بعيدًا، وأن يجعلوها تتسيّد العالم، عندما توصّلوا إلى كيمياء الثقافة التي جعلتهم ينزلون الناس منازلهم، ويقدّمون الأكفاء والموهوبين ليأخذوا مواقعهم التي يستحقونها بجدارة.
كمثال.. كثيرون كانوا رجالات دولة في عهد عبدالناصر، وصدام حسين، والقذافي وغيرهم، كانوا يصفون هؤلاء القادة بأعزّ وأفخم ألقاب الحكمة والهيبة والعبقرية، بعضهم ربما ذهب بعيدًا إلى ما يقرب من مرحلة التأليه والتقديس «أستغفر الله» لهذه الزعامات، لكنهم ما إن اختلفوا معهم، وخرجوا من السلطة، وأصبحوا بمنأى عن أن تطالهم أيديهم، قالوا فيهم ما لم يقله مالك في الخمرة، وتفننوا في ذكر مثالبهم، والتبرع بتركيب مثالب جديدة لهم، واستعارة عيوب سواهم لهم، وربما اخترعوا فيهم بعض الصفات الذميمة التي تستحيل أن تستقيم لمن لا يفرّق بين الألف وكوز الذرة، كما يقول إخوتنا المصريون، فضلًا عن قادة دول، لهم ما لهم، وعليهم ما عليهم، والأمر لا يقف عند هذه المرتبة من الرجال، والذين ربما تتغلب فيهم روح المنافسة، وأطماع السلطة، على إنصاف من باتوا بالنسبة إليهم في مرتبة الخصوم، وإنما يمتد هذا الاستلاب إلى الحياة العامة، فيُنتقص من حق المبدع والموهوب والمتميز بدوافع مختلفة كالغيرة، أو الحسد، أو الضغينة، لأننا لا نملك تلك الثقافة التي تستطيع أن تفرز ما بين إمكانات الشخص وسماته الأصيلة وملكاته ومواهبه، وبين هفواته التي تؤكد آدميته، مما يجعلنا بالنتيجة نحكم على الأشخاص بمعايير انفعالية لا علاقة لها بالحقيقة، ولنا أن نحصي حجم الخسائر التي نجنيها من هذه الأحكام الجائرة، لأننا سمحنا لعواطفنا أن تصدر أحكامها على الأشخاص بدلًا من أن نحكم عقولنا لنصعد بالمتميزين إلى المواقع التي يستحقونها !.
[email protected]