يومض في قلبي أحمد بخيت، وهو يقول في إحدى قصائده:
(يضمدنا الحنان بجملة) ثم يردف في قصيدته البديعة (نحن اقترحنا الأبجدية بلسما).
آمنت يقينا بأن كلمة ضئيلة للغاية فاعلة وخافضة ورافعة وشافية، تختزن عاطفة وشعورا وإحساسا وأثرا، وتحمل قوة وطاقة وحرارة وضوءا، وتنطوي على قيمة ومعنى ودلالة ومفهوم، إنها استثمار عقل وقلب ونفس وروح.
لا يغيب عن خاطري حوار تليفزيوني قديم مع أديب لبناني أسهب فيه عن عظيم أهمية الكلمة فقال:
إن والدتي -رحمها الله- كانت دائما ما تردد على مسامعي (كلمة بتحنن وكلمة بتجنن).
وأتأمل مليا ما بلغ مسمعي يوما من أحد الإخوة المصريين (إحنا عايشين على حس كلمات حبايبنا!) نعم -لعمري- نعم هذا هو الإنسان الكائن الضعيف الهش مهما بلغ مقامه وعلا كعبه!
إن كلمة قليلة الحروف تقض مضجعا وتسيل مدمعا وتخلق عدوا وتشعل حربا لا تنطفئ، كما أن كلمة واحدة فقط تبني بيتا من العدم، وبالمقابل كلمة أخرى صغيرة جدا تهدم بيتا عامرا على رؤوس أصحابه.
أمعن النظر وأتفحص كلمات البشر من حولي وحين أستشعر قسوتها أنفر وأجفل من صاحبها وكأنه احتمالية غير بعيدة لوحش بربري قادم!
الكلمات عندي لها أشكال وأحجام وأوزان وألوان متعددة ومتفاوتة، فتارة تتجسد الكلمة أمامي على شكل أسد بأنياب ومخالب حادة، وتارة أخرى تتكور في لكمة مباغتة تترك أثرها لمدى طويل، وفي بعض الأحايين تتكتل بصورة نصل سكين لامع يرقص فوق ضحيته بلا هوادة. ومن جهة أخرى، يحدث أن تتخذ الكلمة هيئة نسمة رطيبة باردة تداعب القلب في يوم قائظ، كما يمكن أن تبدو على هيئة صباح دافئ يشق ليل المعاناة الطويل، وما أزكى أن تسيل في صورة دهن عود معتق يزداد تركيزه وتطيب رائحته بمرور السنوات.
وفي كل مرة حين يحلو لي حضور فيلم سينمائي أو متابعة سلسلة تليفزيونية تأخذ بمجامع دهشتي وانتباهي سياقات وفضاءات الحوارات، تستدرجني بعمقها وعبقريتها وبراعتها للمضي حتى النهاية.
كنت منذ أيام أتابع مسلسلا كنديا بطلته فتاة يافعة يتيمة ذات شعر أحمر تمقته وتبغضه وتعتقد أنها غير جميلة البتة، الفتاة الصغيرة تقابل إحداهن للمرة الأولى فتبادرها قائلة:
شعرك جميل.
إن شَعْركِ يُشبه الأرض!
يَنْصَرِم اليوم بكل تناقضاته وتؤوب الحزينة إلى غرفتها، تَختَلي في الظلام بربها وتَنحني لتُناجيه:
إلهي الرحيم
أُصلي إليكَ مرارًا مُنذ فترة، على أن تجعلني جميلة حين أكبر! وصرت أعرف أنها ليست صلاًة لائقة وتعتذر منه، ثم تكمل أنها توصلت إلى رأي متطور سعيد بأنها غير عادية وتتقبل ذلك.
آه، كل هذا كان بسبب إطراء لطيف!
الكلمة حقًا وحقيقًة سحر، سر، سنديانة وسايكلوب.
الكلمة مثل الجسد ونحن نُسدِل عليها الأردِية المختلفة، نُرخِي عليها ذوقنا الخاص جدًا! دانتيل، حرير، ساتان، شيفون، قطن، كتان، صوف، مزركش،
مرقط، منقط، مخطط، فضفاض، ضيق، ملائم، طويل، قصير، مناسب، سميك، خفيف، ناعم، فخم، أسمال وأطمار.
في نهاية العام الفارط، اِنْزَوَيت وحدي في مقهى أنيق برفقة كتابي وعبق كوب القهوة الساحر يتَضَوع في كل الأرجاء، فإذا بأحاديٍث عذبة تنساب وتَلثِمُ مسمعي بين أم وابنتها فتفّر من روحي ابتسامة رحيبة وأنا أَسْتَلِذْ المحبة والمَرحَمة في الكلمات المطلية بالسكر والمغموسة بالعسل والمغمورة بماء الزهر، أغادر المكان ونفسي تهتف المجد للكلمات! المجد للكلمات!
أذكُر أني قرأت نصًا منذ سنوات بعيدة لكنه لم يُبارِح عقلي لزوٍج عاشق فَقَدَ شريكة الدرب والعُمر رثاها فيه قائلًا:
كانت نبعًا يفيض بالحب والحنان، كانت حلوة الوجه والتقاطيع واللسان تتمايل في مشيتها أمامي في البيت كغزال، كانت حلوة القد، وكانت تُناديني وتُكلمني بالأغاني!
إن أكثر ما استوقفني وأثار تأملاتي أنها كانت حلوة اللسان تُناديه وتُكَلِمه بالأغاني.
يا إلهي! أليس حَرِيّ بكل زوجة أن تَتَمَثَّل بها؟!
أَجَلْ! قد يَفنى الإنسان ولا تَفنى كلماته تَظَلُ شاخصة في العقل والوجدان.
ولماذا نذهب بعيدًا؟! أو ليست معجزة نَبِينا الخالدة كانت مجموعة كلمات، نحن الذين أمرنا المولى أن نَتَعَبده ونَتَزَلفه بالكلمات، نُصلي ونَدعو ونَذكُر بسيل من الكلمات، بل نؤدي سائر عباداتنا ومناسكنا والكلمات تُرافقنا وتُرقينا إليه أو لم يُخبرنا ربنا الحكيم بأن كلمتنا الطيبة تُماسِس السماء وتؤتي -لامحالة- أثمارها
(ألَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَآءِ* تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ*).
فلماذا لا نَنْتَخِب ونَنْخَل كلماتنا قبل أن تَنْبَجِسْ من أفواهنا بلا أي رادع؟
وفي الختام لا يسعني إلا أن أقول:
عَطَفَ الله قلوبنا.