لكن ربما السؤال الذي يدور في ذهن القارئ الآن:
ما وجه علاقة الرواية تحديدا بالفكرة التي أطرحها هنا، وما هي مبرراتها؟!
الرواية بطلها «ريموند غريغوريوس» معلم التاريخ واللغات القديمة، الذي يعيش في مدينة «بيرن» السويسرية عن عمر يناهز الستين سنة. حياة هادئة وعادية، لا توجد فيها أحداث مهمة، يعيشها مثل ضابط في معسكر متنقلا بين طلابه في المعهد الذي يدرس فيه، وبين منزله الذي يعيش فيه وحيدا بعد طلاقه من زوجته. فجأة تقع له حادثة لم تكن في الحسبان، تغير مسار حياته بالكامل، وتقلبها رأسا على عقب. في الثامنة إلا ربعا صباحا كالمعتاد وهو يمشي على جسر كرشنفلد تحت وابل من المطر الغزير، لمح فتاة تقف على حافة الجسر، تريد الانتحار، وبحركة سريعة لا إرادية، أنقذها من السقوط ثم أخذها معه حيث المعهد وطلابه. لكنها أيضا فجأة تختفي بعد أن تغادر قاعة الدرس.
هذه الحادثة بتفاصيلها الدقيقة التي سيطرت على مشاعره وتفكيره ومخيلته أدخلته في جملة من الأحاسيس المحيرة، خصوصا وهو لا يعلم عن الفتاة أي شيء سوى أنها تتحدث البرتغالية. أحاسيس قادته في النهاية للهروب من حياته الراهنة. وما عمق هذه الأحاسيس عنده وجعله يغير مسار حياته، هو وقوع كتاب الطبيب والكاتب البرتغالي أماديو برادو من لشبونة بين يديه بالمصادفة وهو في المكتبة، وحين ترجم له صاحب المكتبة مقطعا من مقدمة الكاتب «إذا كان صحيحا أننا لا نعيش إلا بجزء صغير مما يعتمل في دواخلنا، فما هو مصير بقية الأجزاء إذن» ص28. قال: أريد شراء هذا الكتاب.
شغفه بالكتاب وتعلقه به وبصاحبه، وبدافع عميق حركة مياهه الراكدة الفتاة المجهولة، بدأت رحلته إلى لشبونة موطن الفتاة والطبيب الكاتب. وفي سلسلة متعاقبة من الأحداث يحاول أن يجمع بين يديه صورة حياة الكاتب محاولا تعلم اللغة البرتغالية، ومكتشفا أسرار حياته مع عائلته وأصدقائه، ومطلعا بعمق على أفكاره، وهو فيما يمضي في اكتشافه، ينفتح السرد على الحياة السياسية والاجتماعية والفكرية في حقبة الستينات من حكم الديكتاتورية، وهو في كل ذلك بالتوازي تبدأ حياته القديمة بالتفسخ، ليكتشف في لشبونة حياة أخرى تنتظره.
الرحلة لأجل التغيير إلى مدينة أخرى، ولغة أخرى بدوافع بسيطة تحدث في حياتنا، والشغف الذي صاحب بطلها في معرفة أدق التفاصيل عن حياة كاتبه المتأثر به، ولم يحالفه الحظ في التعرف عليه بسبب موته، هي الرابط الذي أجده بين الفكرة والرواية التي صدرت بها المقال.
الرواية تحولت إلى فيلم من إخراج الدنماركي 2013 بيل أوغست الذي أخرج العديد من الروايات منها البؤساء وبيت الأشباح، والحائز على العديد من الجوائز. لكن مشاهدة الفيلم لا يغني عن قراءة الرواية. المخرج حذف مقاطع عديدة حتى ينسجم الخط الدرامي للفيلم مع التركيز أكثر على الجانب السياسي في الشخصيات، بينما الرواية فيها الجانب الإنساني العميق الذي يدعوك في صفحات عديدة للتأمل في الغموض الذي يكتنف حياة الإنسان بتفاصيلها.
@MohammedAlHerz3