إذا أردنا أن نستوعب قصة نوير السبيعي كما يجب، يلزمنا أن نستحضر الموقف بتمام تفاصيله، أن ننفذ من لغة الخبر الذي نقل قصتها للناس، إلى صورة الموقف، إلى المشهد نفسه الذي جسد لحظات هذه الملحمة بكافة تفاصيل مشاعرها، لا بل يجب أن نكتشف أو نخترع قولوا ما تشاؤون جهازا.. آلة لتصوير المشاعر لحظة الانفعال، واتخاذ القرار، حتامَ نقف على حقيقة ما حدث في هذه القصة التي أعتقد أنها لم تأخذ حقها من التبجيل، ومن الحفاوة، رغم كل ما قيل عنها وفيها حتى الآن من الشعر والقصائد.
نوير، واسمحوا لي فلا يجوز أن أضع هذا الاسم بين قوسين، فهو أكبر من أن يقوس، بعدما دفعته صاحبته الشهيدة إلى مرتبة الرمزية والأسطورية بقرارها الشهم، نوير أم الأطفال الأيتام الذين استشهد والدهم هو الآخر غرقا، وهو يحاول إنقاذ غريق، كما لو أن القدر قد جمع في هذين الزوجين النصيب الأوفى من التضحية، وترك البقية للآخرين.
نوير تقف قبالة (المشب) مشب النار الذي يوجد فيه والدها المقعد، وألسنة اللهب تندلع فجأة بينها وبينه، تحاول عبثا الوصول إليه لإنقاذه، تحاول إخراجه من الغرفة التي تتمرد فيها ألسنة النيران، وتمتد من زاوية إلى أخرى، كانت المرأة تحتاج إلى قرار، حيث لا وقت للمداولة، ولا حتى للتفكير بالهاتف لاستدعاء فرقة الدفاع المدني، وربما لا وقت حتى للصراخ، فقط نوير ووالدها والحب والنار، معادلة رباعية الأضلاع، جمعت البر بمعناه الذي قلما وصل إليه الناس، والعجز متمثلا في عوق الأب، وحب المرأة لأبيها العابر لكل الآلام، وسطوة النار وفجور اللهب، وهي المعادلة التي لا تسمح، ولن تسمح بإنتاج أي كيمياء تصالحية، سوى كيمياء التحدي، والنزال مع النار.
حين بدأت النار تحاصر الأب المقعد، اتخذت نوير قرارها أن تكون هي لحاف جسده المنهك، أن تكون الغطاء الذي يكفيه لسع صالي النار، لترتمي فوق والدها وتحضنه، وتترك للنار حق أن تلتهم جسدها كما تشاء قبل أن تصل إلى جسد والدها الشيخ !.
تخيلوا جيدا.. كانت النار تشوي جسدها بالتقسيط فيما هي تمعن في لف جسدها فوق والدها حتى لا يطاله اللظى، أي قوة هذه التي جعلت هذه المرأة العظيمة تتنازل للنار عن لحمها بسخاء لتشويه كما تشاء، وعلى مهل مع كل ما فيه من الألم، لينصب تفكيرها فقط في جسد الأب الحبيب الذي ظنت به على النار، لا شك أنها قوة البر، وشجاعة التضحية، وعظمة الإيثار. لذلك أنا أدعو وبأعلى الصوت: يا وطن -والخطاب للجميع- إن لم نكرم ذكرى هذه الفقيدة العظيمة رحمها الله، بتمجيد موقفها أولا، ثم العناية بأيتامها، وكفالتهم، فلسنا جديرين بمثل هذه القدوة التي بلغت بصنيعها ذروة البر النبيل.
[email protected]