أكتب لكم هذا المقال من محافظة العلا، مهد الحضارات والثقافات المتعددة عبر كل العصور، حيث تلقيت دعوة كريمة من الهيئة الملكية لمحافظة العلا لحضور حفل «ليالي الموسيقى الفارسية» الذي أقيم يومي 5 و6 من مارس ضمن موسم شتاء طنطورة في موسمه الثاني والتي اختتم بها الموسم. وقد أحيا نخبة من أشهر فناني الموسيقى الفارسية ليلة أصيلة بنكهة حضارة فارس العريقة. في الليلة الأولى أحياها كل من شهرام شبره، ولیلا فروهر، وشادمهر عقیلی، وأندي. أما في اليوم الثاني فقد أحياها ساسي مانكان، وآرش لباف، وآبي حميدي. وهؤلا مغنيون يحظون بجماهيرية عالية حول العالم. برأيي كانت الأمسية لفتة جميلة للتأكيد على رؤية المملكة 2030، التي تهدف إلى تعزيز الحوار بين الثقافات والانفتاح على الحضارات الأخرى. يقول آبي حميدي خلال حديث له مع صحيفة سعودية: «هناك العديد من الأمور التي تشترك بها الموسيقى الفارسية والعربية، مشيراً إلى أن أكثر ما يهتم به عند سماع الموسيقى هو المشاعر سواء كانت الموسيقى عربية أو فارسية أو غيرها، الأهم أن تكون موسيقى فريدة من نوعها». أما ساسي مانكان، الذي يعيش منذ عام 2009 في أمريكا، فذكر لنفس الصحيفة أنه «أصدر أغنيتين لغتهما عربية وفارسية، وأتمنى في المستقبل أن أشارك مع فنان عربي في أداء أغنية». وبالمناسبة فإن ساسي أصدرت له قبل عام أغنية اسمها «جنتلمان» انتشرت في المدارس والأماكن العامة، وتصدرت مواقع التواصل الاجتماعي حيث أصبحت مقاطع الفيديو جزءاً من ظاهرة أطلق عليها الناشطون «تحدي الرقص» في إيران، حيث بدأ التلاميذ يرقصون على أنغامها ويبثون المقاطع عبر مواقع التواصل، والتي قابلها رفض من مختلف مسؤولي النظام الإيراني، وبدأت الحكومة الإيرانية في اتخاذ إجراءات حازمة لملاحقة التلاميذ الذين ينشرون مقاطع تحدي الرقص في محاولة منها لوقف انتشار مقاطع الفيديو، حيث تلاحق السلطات الأمنية والقضائية العديد من الطلاب وبعض المعلمين الذين يرقصون في مقاطع الفيديو. ودعا وزير التعليم الإيراني الشرطة إلى تتبع «مصدر» ما وصفه بـ«مقاطع الفيديو المزعجة» لأطفال المدارس، الذين يرقصون بمرح على أغنية ساسي مانكن. ورد ساسي على هذه الإجراءات بقوله «إن المشكلة لدى الحكومة في رفض الأغنية وليست منه، مشيراً إلى أنه يسعى لإسعاد الناس». وتجدر الإشارة إلى أنه في سبتمبر 2014 تم الحكم على أربعة شبان في طهران، بالجلد والسجن بسبب رقصهم في شريط فيديو على أنغام أغنية «هابي» الشهيرة لفاريل ويليامز. وبالتالي أنا أعتقد أن هذه المناسبة الفنية هي أيضا تأكيد أن الخلاف الإيراني- السعودي هو خلاف سياسي ضد نظام ثوري ثيوقراطي رجعي، يسعى إلى تقييد حريات الناس وإفقارهم في الداخل باسم الدين، وإقليميا وخارجيا يسعى إلى تدمير المنطقة وإثارة الفوضى والدمار.
إن نجاح موسم طنطورة في موسمه الثاني في لفت أنظار العالم إليه هو إعادة تأكيد وتذكير بعراقة العلا، المدرجة ضمن قائمة اليونسكو لمواقع التراث العالمي، باعتبارها موطن الآثار في شمال شبه الجزيرة العربية، وملتقى العديد من الحضارات على مر عصور متعاقبة، هذا الإرث الممتد إلى آلاف السنين، التي تعتبر مرآة حضارات العالم القديم في الجزيرة العربية، ومتحفاً مفتوحاً للفنون والثقافة والتراث، وأهم مواقع التراث الثقافي والحضاري، حيث عاشت واستوطنت فيها أربع حضارات: حضارة ثمود 3000 سنة قبل الميلاد، ثم مملكة دادان ومملكة لحيان (600 ق م- 150 ق م) ثم مملكة الأنباط (150 ق م- 106 م). وهي جزء بسيط من إبراز دورنا الحضاري القديم. وقد كتبت مقالا قديما عنونته «السعودية: مملكة الحضارات» دللت فيه أن المملكة ليست طارئة على التاريخ بل هي مهد لحضارات إنسانية ضاربة في القدم. فالجزيرة العربية التي تغطي المملكة معظم أجزائها موطن للعديد من الحضارات التي ازدهرت داخل حدودها. البروفيسور عبدالرحمن الطيب الأنصاري أحد أهم المتخصصين السعوديين في الآثار، يذكر أن هناك أكثر من 30 حضارة في الجزيرة العربية، فهناك حضارات وثقافات فجر التاريخ وثقافات الأمم الغابرة وثقافات الممالك العربية المبكرة وثقافات الممالك العربية الوسيطة وثقافات الممالك المتأخرة. كلها ارتبطت بالجزيرة العربية.
وختاما رؤية 2030 وتركيزها على البعد الحضاري من خلال اهتمامها بالتراث والترويج لها بكل الوسائل وعبر كل الأدوات، سوف ترسخ بلا شك الهوية الوطنية والمواطنة وربط المواطنين ببلادهم، وتنمية الاعتزاز بالتعاقب الحضاري الذي تحتضنه عبر العصور.
@Alothaimin