n بعد وجبة العشاء وقبلها يرتفع صوت النساء بلحن البيئة، لا تتراقص الأجساد، لكن ثني الركبة ومدها، مع هز الأيادي، بتناغم يجعل لإيقاع صوت ضرب الدفوف معنى. تشكيل يعطي بعض التمايل والحركة، للأجساد الممشوقة نحفا لفاقة. يجمعهن فراغ مجلس البيت، بصف واحد منتظم، بلبس مطرز موحد. تقف العروس بمنتصف الصف، بثياب زاهية. ينشدن بصوت جماعي، وبلحن لا يتغير، وبضرب دف لا يتبدل. لا رقص.. حشمة الأداء من طقوس الكرامة.
n تتنافس شاعرات القريتين. إظهار مناقب العروس، يطال أهلها وجماعتها وقريتها. بالمقابل شاعرات العريس، ينشدن مرحبات بالعروس وأهلها، يمجدن مكانة العريس وأهله وقريته. بعض القصائد لجودتها تؤرخ لعرس يوثق استمرار الحياة.
n يعتلي رؤوسهن وهج ضوء (الأتاريك) حيث لا كهرباء. ساعات قليلة وتتوقف طقوس الاحتفال، فالجميع جاء مباشرة من ميادين الحقول الزراعية. الجميع بحاجة لراحة الأجساد، استعدادا لليوم الثاني الأهم للقرية. إنه يوم فرح الرجال.
n في صباح ليلة الزفاف، يستعد بيت العريس وأهله وجماعته، لاستقبال رجال أهل العروس وجماعتها. يفدون ضحى النهار، مباركين ومهنئين. يفخرون بهذا النسب. يقارب بين القريتين. يعزز جذور علاقات تاريخية وبيئية قائمة.
n كان جزء من ذلك الاستعداد، توفير الماء للجميع. هذا من مهمة نساء القرية. يتنادين، يذهبن في مسيرة نحو أقرب بئر، لينزفن من مائها في القرب الجلدية. وتظهر العروس في صباحيتها، تحمل قربة الماء التي أحضرتها كجزء من جهاز عرسها، لتشارك مع بقية نساء القرية. إنه إعلانها الأول بأنها أصبحت فردا مشاركا في قريتها البديلة.
n أذكر مرافقتي لوالدتي في مسيرة الماء لهذا العرس. كنت أعرف كل النساء المشاركات باستثناء العروس. فجأة سألت من أكون؟ فأجابت أمي، هذا ولدي محمد. على الفور سألتني العروس: هل تتزوج بنتي؟ تحدثت معي بلطف وثقة، خلدتها في نفسي تقديرا. كنت محل حديث النساء وتندرهن من خجلي.
n بالدلو يغرفن الماء من قعر البئر. يفرغنه بحرص في كل قربة. ثم يحملنها على أكتافهن تعليقا، حتى تصل لمستوى السرة، لتمكين اليد من احتضانها بجانب الجسم النحيل، ورفعها للتخفيف من وطأة ثقلها على كتف الأحمال.
n رجعن بغنيمة الماء في طابور مستقيم، سافرات الوجه والكفين، بلثام يحركنه، ليخفي النصف السفلي من الوجه عند اللزوم. يرتدين ثيابا مطرزة فضفاضة. تلتف أجسادهن مع رؤوسهن بشرشف أبيض يغطي معظم قامتهن الممشوقة، بشموخ وكبرياء الأرض التي يمشين عليها.
n بعد سنين طويلة من الغربة، تفوق الأربعين عاما، قابلت هذه العروس، برفقة أمي وزوجتي، وقد أصبحت جدة، فذكرتها بعرضها في ثاني أيام عرسها.
n رسم هذا العرس المشهد الأول في حياتي عن الماء، في ريف جعلناه بقايا إنسان.
@DrAlghamdiMH