ويعتقد الدكتور الأمريكي- الإيراني ناصر قائمي في كتابه (جنون من الطراز الرفيع) بأن الاكتئاب الذي أصاب لينكولن جلب له ميزتي التعاطف والواقعية كعناصر مساعدة له في قراءة المشاهد السياسية كما تبدو وكيف يجب أن تبدو، أو كما يقول كثير من الأمريكيين بأن اكتئاب لينكولن كان بمثابة الأداة التي أنقذت الأمة.
عرف عن لينكولن أنه كان يبدي تعاطفاً شديداً مع العبيد جراء ما يطولهم من ممارسات استعبادية من البيض وذلك باستخدامهم كأيادٍ عاملة مجانية قابلة للأخذ والرد والتمليك، وتقييدهم بالسلاسل والقيود أثناء تنقلهم مما دعاه لأن يقول في إحدى المرات:
«كأمة بدأنا حين أعلنا أن كل الناس خلقوا متساويين، بينما نقرأها الآن كل الناس خلقوا متساويين.. إلا الزنوج!»
وفي ظل احتدام الصراع بين الجنوبيين المنقسمين الممارسين للرق، والشماليين المناهضين له، اشتعلت شرارة الحرب الأهلية التي فتكت بالولايات المتحدة وحصدت ما يقارب الـ ٦٠٠ ألف من الأرواح، استطاع من جانبه لينكولن أن يوفّق بين مزاياه التي أورثها له الاكتئاب، فاستطاع أن يمازج بين مشاعره الإنسانية المتعاطفة مع العبيد، وما يتطلبه القرار السياسي في ظل أطراف متنازعة، فعلى الرغم من رغبته الإنسانية الشديدة في إنهاء الرق، كان يعلم شديد العلم أن مرحلة تحقيق ذلك طويلة جداً خاصة في حالة الاعتماد على الوعي المجتمعي وتطورات الرأي العام، إذ كان لينكولن شخصًا لا يحبذ الاختيارات الدموية ويفضل استخدام (سياسة الاحتواء) التي تضمن له إرضاء كافة الأطراف وخلق نوع جيد من التسوية.
فكان في البداية، اقترح الحد من الرق وليس إلغاءه في محاولة منه لتجنب استفزاز الجنوبيين، كما ظهر محايداً تجاه القضية أثناء اجتماعاته مع زعماء السود معللًا ذلك بأن الاختلاف العرقي أمر محسوم بناء على اختلافاتنا، كان ذلك الحديث قبل عام من إعلانه التاريخي بتحرير العبيد، ليقطع بهذا الإعلان كل ذريعة تساهم في دفع الحرب إلى اتجاه التطور، وكذلك تجنباً لأذية مشاعر المتعاطفين مع هذه القضية، من يقرأ هذا يظن بأن لينكولن شخص متناقض ولكن على العكس تماماً، كان لينكولن ذكياً وقادراً على التعامل وفق ما يقتضيه الوقت والموقف.
إلى هذا الحد كان لينكولن يأمل بوأد الحرب وتحقيق مبتغاه تدريجياً، لولا ضغط المناهضين الراديكاليين في الكونغرس إلى تحرير العبيد، وانتفاضة عشرات الآلاف منهم في الجنوب، وفرارهم إلى الحدود الفاصلة بين الجنوب والشمال، حينها علم لينكولن بأن خيار الحرب أصبح واقعاً، وبواقعيته المعتادة تعامل بما يقتضيه الموقف والوقت، فخاضها ببسالة ونجح في استرداد الجنوب وتوحيده مجددًا ليضيف هذا الإنجاز إلى إنجاز إعلان تحرير العبيد.
من يقرأ في سيرة أبراهام لينكولن يعلم بأنه من الرؤساء العظام الذين مروا على الولايات المتحدة، ومن يقرأ في تاريخه المرضي الطويل مع الاكتئاب وتعامله خلال أزمة الحرب الأهلية يعلم أيضاً بأنه أكثر رؤساء التاريخ ذكاءً، وواقعية، وخبرة، وكل شيء بثمن، كان ثمن حرية الملايين ووحدة الصف الأمريكي تعاسة لينكولن وحياته إذ مات مقتولًا على يد أحد البيض الرافضين إعلانه.
@naevius_