من كان يظن يوما بأننا سنخوض حربا ننقذ العالم فيها فقط من خلال البقاء بمنازلنا دون أدنى جهد؟..
نخوض منذ قرابة الشهرين حربا أقرب إلى أن تكون حربا عالمية ثالثة.. ولأول مرة في تاريخ البشرية تتمثل حمايتنا للكوكب في المكوث بمنازلنا دون فعل شيء، يا له من دور بطولي! وما أبسطها من حرب! ولكن ما لم نتوقعه هو عدم مقدرتنا على البقاء في المنزل دون فعل شيء، لم نعتد العزلة ولم نتكيف مع الفراغ، نحن الذين اعتدنا العمل.
في الوقت الذي يعيش العالم فيه ذروة العولمة والتعقيد والتكنولوجيا والسرعة والمسؤوليات والتغير، بات الإنسان أشبه بالماكينة البشرية، لا وقت للتوقف! منهمك في العمل، التركيز، المنافسة، الدقة، رفع الإنتاجية، التخطيط، جدولة المهام، متابعة مؤشر الأسهم، الاستعداد للاجتماع، مراقبة أسعار النفط، تلبية مسؤوليات الأسرة، مراقبة أداء الموظفين، كسب رضا العميل، تحقيق أعلى الإيرادات، السعي للحصول على ترقية.... وتطول القائمة..
لا ننكر حالة الاستياء الشديدة وموجة الملل الحادة التي اجتاحتنا منذ بداية الأزمة، و«الشلل» الذي أصاب حياتنا نتيجة إلغاء كافة الارتباطات العملية والاجتماعية، فلم نعتد نحن الولوعين بالعمل أن نجد يومنا فارغا إلى هذا الحد، ولا يروقنا هذا القدر الكبير من الراحة «المفسدة» التي نخشى أن تتحول إلى كسل.
أتقنا العمل ولم نتقن الراحة والهدوء.. أتقنا الاختلاط بالآخرين والتعامل مع كل شيء ولم نتقن الاختلاء بذواتنا والتعامل معها.. لم نألف عزلتنا ولم نتعرف على أنفسنا ولم نتعلم مصادقة ذواتنا ومجالستها..
هل جربنا فعل «اللاشيء»؟ وتقبلنا «الملل»؟ وتكيفنا مع «الفراغ»؟ أم إننا بحاجة لاكتساب هذه المهارات؟ أدركت هذه الفترة أن جل ما نحتاجه هو «التعايش» مع هذه المرحلة بكل ما تحمل من غرابة وملل، وتسخيرها وتحويلها قدر الإمكان لصالح ذواتنا وعقولنا وأجسادنا وأن ننظر لها بإيجابية لنخرج منها بأكبر الإنجازات وأقل الخسائر.
ذكر د. ريتشارد كارلسون تجربته مع الملل والذي يقول إنه «مفيد».. فجميعنا يوجد لدينا العديد من الدوافع، ناهيك عن المسؤوليات لدرجة أنه يستحيل علينا أن نظل جالسين دون فعل شيء ولا حتى أن نحصل على قدر من الاسترخاء ولو لدقائق معدودة.
ولأول مرة يتعرض لفكرة أن الملل بين الحين والآخر يمكن أن يكون مفيدا للإنسان، عندما قام بالدراسة مع زميله في مدينة صغيرة بواشنطن والتي لا يوجد فيها ما يفعله، فبعد أن أنهى يومه الأول سأل زميله «ماذا يمكنك أن تفعل في هذه المدينة بعد انتهاء العمل؟» قال لا يوجد شيء تفعله، فقط أريد أن تسمح لنفسك أن تصاب بالملل، فهذا جزء من البرنامج التدريبي، فسأله: وما الذي يضطرني لأن أختار الإحساس بالملل، أجاب الزميل بقوله: إنك إذا سمحت لنفسك بأن تصاب بالملل ولو حتى لساعة واحدة دون مقاومة، فإن هذا الشعور بالملل سيحل محله الشعور بالسلام والهدوء.
لا أخفيكم استغرابي في البداية لتجربة د.ريتشارد، حيث استوقفتني جدا ولم يرضخ لها عقلي أو يقتنع بها!. فالملل والفراغ بالنسبة لي أمر مستهجن وغير مألوف.. بل أقرب إلى أن يكون عدوي الثاني بعد الفشل.
في البداية، قد يكون من الصعب علينا أن نحتمل ذلك فقد اعتدنا على فعل أي شيء في أي لحظة، لدرجة أننا نبذل مجهودا كبيرا كي نركن إلى الراحة التي يفترض أن تكون طبيعتنا الأولى قبل العمل.
فقط اجلس على الأريكة أو بقرب النافذة ولاحظ أفكارك ومشاعرك بصمت في هذه الأثناء.. «تأمل».. في البداية قد تصاب بالقليل من الضيق ولكن مع الوقت ستصبح المسألة أكثر سهولة وسوف تجد العائد مجزيا جدا..
@Ud96_