لم يتوقف الإنسان عن تطوير تفكيره، منذ أن أصبح في صراع مع الكائنات الأخرى على البقاء. وكان حريصاً على أن تكون عمليات التطوير هذه نوعية بحيث لا يبقى الإنسان على نفس المستوى من درجات التفكير، كما هي الحال في كثير من الكائنات الأخرى، التي يتشارك معها الإنسان مورثات جينية بنسب كبيرة جداً، وربما كان هو كذلك في مرحلة من مراحل تكوين دماغه المبكرة. فقد نشأت لديه الحاجة لصناعة النماذج الرمزية للأفكار، وأصبحت هذه السمة ملازمة له في كل أنماط عيشه وتفكيره، بغض النظر عن مستوى تقدمه الحضاري أو نصيبه من الرفاهية، بل أصبحت من النشاطات الرئيسة له، مثل الطعام والتمتع بالطبيعة والحركة، لتكون هذه السمة من الإجراءات الجوهرية للعقل البشري في كل الأزمان.
ففي الوقت الذي تتصارع الحيوانات بعضها مع بعض بشأن الطعام أو الزعامة، لكنها، خلافاً للبشر، لا تتصارع بعضها مع بعض على الأشياء، التي تدل على الطعام أو الزعامة، مثل فكرة الأوراق الرمزية، التي تدل على الثراء عند البشر (النقود، والسندات، والألقاب) أو الماركات التي تحملها ملابسهم، أو لوحات السيارات المميزة التي تحملها سياراتهم. فمستوى التفكير لدى كثير من الحيوانات، التي تقترب أدمغتها من حجم دماغ الإنسان لا تصل إلى هذا المستوى؛ فالحيوانات التي علّمها البشر قيادة السيارات (الشمبانزي على سبيل المثال)، ترى أن الإشارة الحمراء تعني الوقوف؛ بينما يرى الإنسان أنها ترمز إلى الوقوف. لذلك، فإن الحيوانات التي تعلمت قيادة السيارة تقف عندما ترى الإشارة الحمراء، حتى لو كانت في منتصف التقاطع، وتنطلق عندما تتحول الإشارة إلى اللون الأخضر، حتى لو كان في الطريق ما يعرقله.
وهناك فرق بين فكرة أن «الإشارة الحمراء هي الوقوف» (في علاقتها الدلالية عند الشمبانزي)، وبين أن «الإشارة الحمراء ترمز إلى الوقوف» (في علاقتها الدلالية عند البشر)، التي لا يفهمها إلا الدماغ البشري. فالإشارة الحمراء عند الشمبانزي هي رسالة مباشرة، وسيكون رد فعله مباشراً عليها من خلال الوقوف، بغض النظر عن كون الظروف مواتية أو غير مواتية؛ أما الإنسان فإنها بالنسبة إليه رمز، لذا يكون رد فعله رمزياً من خلال مراعاة الظروف المصاحبة. وبكلمات أخرى: النظام العصبي القادر فقط على رد الفعل على العلامة، يتعرف على العلامة بوصفها مصاحبة للشيء الذي تدل عليه؛ أما النظام العصبي للإنسان فهو في المقابل يعمل تحت الظروف الاعتيادية، ويدرك أنه لا توجد دائماً علاقة بالضرورة بين الرمز والشيء الذي يرمز إليه. فالبشر لا يقفزون بصورة آلية انتظاراً للطعام، عندما يسمعون صوت باب الثلاجة لدى إقفاله.
ولأن الدماغ البشري مؤهل لفكرة، أن هناك أشياء محددة ترمز إلى أشياء أخرى؛ فإنه قد طوّر ما يمكن أن نسميه «الإجراء الرمزي». فعندما يتواصل شخصان أو أكثر من البشر بعضهم مع بعض، فإنهم يستطيعون الاتفاق على جعل أي شيء يرمز إلى أي شيء آخر: فالريشة المثبتة فوق الرأس يمكن أن تشير إلى زعامة القبيلة، وبعض المجوهرات المعلقة على الجسد أو اللباس يمكن أن ترمز إلى الثراء، وبعض الأشكال المقتناة في المنازل أو دور العبادة يمكن أن ترمز إلى معتقدات دينية. وفي الجزء الثاني سنستكمل بعض جوانب الموضوع مع التمثيل من واقعنا المعاصر.
falehajmi@