اللغة دائما ما تأتي في المقدمة، لغتك حصنك الحصين التي استودعت فيها أسرارك، أحاسيسك ومشاعرك، أوجاعك وأفراحك، هي عيناك ويداك ولسانك، وكل ما يمت إلى تفكيرك بصلة وثيقة، هي باختصار وجودك الثاني بعد جسدك.
هل فكرت بذلك مسبقا؟
هل فكرت أن الحياة بين الكتب- في يوم ما- سوف تستعمر لغتك وتحتل مدنها وطرقها وشوارعها وبيوتها حتى تأتي لحظات عليك معينة، وتشعر معها أنك أصبحت رجلا غريبا في دارك؟
نعم، الكثير خبروا مثل هذا الشعور، ولم يعرفوا كيف يفسرون أسبابه؟
في بعض المواقف في حياتك الاجتماعية واليومية لا تحتاج إلى لغة الكتب، تريد أن تستدعي فقط لغتك الطبيعية التي تربيت عليها، وذلك عندما تكون بين جمع من العائلة أو الأصدقاء، أو بين زملاء العمل، الذين لا شأن لهم بعالمك الذي تحياه بين الكتب.
بكل بساطة يستعصي عليك الأمر، أو يشق عليك أن تبحث بين مفرداتك ما يسعفك أن تعبر من خلالها عن دواخلك بسهولة مطلقة، ما يسعفك أن تتفاعل مع ما يدور حولك من كلام، هي في عرف لغتك التي اكتسبتها من حياة الكتب بسيطة وساذجة في الأغلب الأعم إذا كنت ممن يقدر الآخرين، أما خلاف ذلك فأنت لا ترى فيها سوى مضيعة للوقت، والابتعاد أسلم لك وللغتك ولمشاعرك.
لكن إلى أي مدى تفضي الحياة بين الكتب إلى مثل هذه الحالة؟ وهل كل من ظن نفسه أنه يعيش بين الكتب يصل به الأمر إلى مثل هذا الموقف من الاستعصاء؟
بالتأكيد لن يكون الأمر كذلك. هناك تفاوت. لقد عبر العديد من الكتاب والقراء والشغوفين بجمع الكتب ومطاردتها بالأثر الكبير الذي تركته العلاقة بالكتب على حياتهم العامة. لكن ليس الجميع تغلغل هذا الأثر فيهم إلى درجة يرون حياتهم انقلبت رأسا على عقب، القلة الذين غامروا بكل ما يملكون من أشياء ثمينة في حياتهم، من أجل الظفر بكتاب أو الحصول عليه بشتى الوسائل، في وقت عز فيه سهولة التواصل العالمي مثلما هو حاصل الآن.
في عقد الثمانينات والتسعينات من القرن الفائت كان الحصول على الكتاب بمثابة الكنز الذي تطبق عليه بكلتا يديك، ولا يسعك التفريط فيه.
في ذلك الوقت كانت مكتبة الشاعر علي الشرقاوي في مملكة البحرين هي المصدر في توفير المراجع من الكتب المهمة التي تأتي بالخصوص من المغرب العربي. وبحكم قرب المسافة بينها وبين المنطقة الشرقية كانت البحرين هي الخيار الذي اختاره أغلب مثقفي المنطقة الشرقية في الحصول على الكتب. بعض الكتب المطلوبة لا تتوافر إلا على نسخ قليلة، فتضطر المكتبة لتصوير الكتاب ونسخه لكثرة الطلب عليه.
جرى معي ذلك مع كتاب «النيئ والمطبوخ» للعالم الانثروبولوجي كلود ليفي شتروس، طلبته من الأستاذ علي الشرقاوي، ثم واعدته على يوم محدد بعد أن نسخه ورقيا، وعندما رجعت به، لم يمر من الجسر. كررت المحاولة ثلاث مرات ولم تنجح. في المرة الرابعة نجحت. هذه صورة واحدة من صور الشغف الذي يؤدي بالتعلق بالكتاب إلى طريق لا رجوع فيه إلى الوراء أو التخلي عنه بسهولة. لكن ضريبته كبيرة، لا يتحملها كل من خاض فيه.
@MohammedAlHerz3