والنفوس البشرية من طبيعتها حب التملك والسيطرة ولها الحظ الوافر منها. وقد جاء في الآية الكريمة أن إبليس اللعين قال مخاطبا أبانا آدم عليه السلام: "هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَىٰ" والشاهد أن حب التملك مغروس في أعماق الإنسان. وقد يكون التملك على شكل مال أو جاه أو منصب (وهو حديثنا اليوم).
ونحن نعلم أن المنصب الإداري عمره أقصر من عمر الإنسان! ونعلم أيضا أن التغيير الإداري هو الأصل، وأن الثبات هو من شبه المستحيلات. ومن هنا إذا لم يكن لنا نصيب في منصب أو أُخرجنا منه بمكر إداري!، فلنتذكر أنها مشيئة الله التي أراد، وسيُحدث الله لنا بعد ذلك أمرا. ومن المهم أن نحمل بين جنيبا من قبل ومن بعد (مصلحة العمل) أولا وأخيرا، وبذلك سنرتاح وربما نُريح الآخرين! وقد قال غازي القصيبي -رحمه الله- في كتابه الرائع (حياة في الإدارة): «اتخذت عبر تجربتي الطويلة في الإدارة الكثير من القرارات المؤلمة والصعبة، وحاولت جهدي ألا يكون أي قرار من هذه القرارات مبنيا على اعتبارات شخصية، وحاولت جهدي ألا أسيئ على أي نحو إلى فرد أو أفراد». وبهذا النهج يكون ما يحدث لنا في كل الأحوال خيرة وتحصيل حاصل، وسنسلى النفس بأن القادم أجمل، موقنين بأن الخيرة فيما اختاره الله.
وتخيلوا معي لو استمر ابن حزم -رحمه الله- في وظيفته ومنصبه الإداري المرموق سنين طوال. فهل كنا سنعرف الإمام الفذ وصاحب العقل المتقد؟! أشك في ذلك لأن شخصية ابن حزم كانت قوية وحادة، وستصطدم حتما في ممرات ودهاليز المناصب والإدارة! ولكن الحمد الله أن الدنيا أعطته ظهرها!! ليتفرغ للعلم ويبدع ويتألق، حتى أني قرات مرة أن العلامة ابن القيم -رحمه الله- على علمه وفضله كان حريصا أشد الحرص على مطالعة جميع كتب ابن حزم بلا استثناء. إذا كان ولا ريب اختيار الله لابن حزم خيرا له من اختيار المنصب.
وحتى ترسخ الفكرة (الخيرة فيما اختاره الله) أكثر ونلتصق بها أشد ما يكون. اسمحوا لي أن أقول لكم إنه لما تعب ابن خلدون -رحمه الله- من تقلبات المناصب ومن تغير الأحوال عليه، اعتزل في قلعة «ابن سلامة» في الجزائر لمدة أربع سنوات، فأخرج لنا أفضل مقدمة اجتماعية عبر العصور، والتي تسمى «مقدمة ابن خلدون» وفيها سنن التاريخ والعمران وأحوال الناس. وأي خيرة أفضل وأجمل من أن يذكرك التاريخ، وتترك أثرا نافعا، وتصبح مرجعا في علم الاجتماع قديما وحديثا.
ثم ألا تتفق معي أننا نعتقد أحيانا أن المنصب الإداري الذي نحن فيه الآن هو أفضل لنا، وأننا ذلك (الشخص المناسب في المنصب المناسب)، ولكن حين ننتقل إلى مكان آخر نجد أن نظرتنا الأفقية للأسف كانت خاطئة! فعندما طرد ستيف جوبز من شركته (أبل) كان ذلك أفضل له! لأنه عاد إليها أقوى وأكثر خبرة ونضجا، وأشد صرامة وتصميما.
وباختصار، إذا كان يهمك أن تعرف أنك في (المكان المناسب)، فاستمع إلى ما يقال عنك في الممرات والدهاليز؟!
abdullaghannam@
abdullaghannam@