كنا في الجزء الأول من القصة قد تكلمنا عن الشاب النجدي، الذي ضاقت به وبعائلته الحال في حقبة ربما تكون في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، فقرر الهجرة إلى الكويت، وهو ابن الرابعة عشرة من عمره، ولم يجد عملا هناك، وأوصاه أحدهم بالانتقال إلى العراق لكونه يجيد مهنة الفلاحة ويستطيع العمل في المزارع المنتشرة في العراق. وبعد أن تقصى طريقة السفر إلى العراق والاتجاهات والمسافات، وحيث لم يكن يملك أي شيء من المال، فلم يستطع الالتحاق بقافلة، وكان لا بد أن يعتمد وسيلة المشي طريقة للوصول إلى هناك، مثلما سار مشيا على الأقدام من بريدة إلى الكويت.
يقول: سألت بعض العارفين عن الاتجاه الذي علي أن أسلكه، ولم يكن معي سوى قربة ماء وتمر. وأدركني الليل فنمت الليلة الأولى، ومشيت في اليوم التالي إلى الليل، وبت أيضا قبل أن أصل إلى هدفي. وعندما سرت في اليوم الثالث رأيت بيوتا ومزارع، فسألت عنها، وقالوا لي: هذه هي البصرة. وسألت من قابلته عن الطريق إلى سوقها، وأرشدني إليه، فتوجهت نحوه طلبا للحصول على عمل. وحالما دخلت السوق، رأيت شخصا عند أحد الدكاكين يشتري بعض أغراضه، فاتجهت إليه، وسألته مباشرة: هل تعرف أحدا يشغلني في أي عمل؟ فنظر إلي متمعنا، وقال: إنك صغير، ولن يرغب أحد في تشغيلك، لكن ماذا تعرف من الأعمال؟ قلت له: إني أجيد الفلاحة، وكنت أعمل كل الأشغال في مزرعة والدي. وعرفت من رده أن لديه مزرعة، فقلت له: جربني شهرا كاملا دون أجر. فإن لم أعجبك، فلا تعطني شيئا في ذلك الشهر. فقال: إذن اتفقنا، الشهر الأول تجربة ومجاني. اذهب إذن وأحضر أغراضك! قلت له: ليس لدي أي أغراض، سوى هذه القربة التي معي. فانطلقنا إلى مزرعته، وأرشدني إلى غرفة عند مدخل المزرعة، وقال: هذه الغرفة لمبيتك. بدأت أعمل في تلك المزرعة منذ البداية بجد واجتهاد، حيث كنت أقوم بكل ما تحتاج إليه بمفردي، وفضلا عن ذلك أقوم بإعداد الولائم لضيوفه عندما يأتون إليه. وهكذا مرت أيام على عملي فيها، أصبحت ألحظ سروره مما كنت أقوم به ورضاه عني هو وضيوفه. وبعد مرور الشهر، قال لي: الآن مر شهر على بداية عملك، وسأوظفك منذ الآن بأجر، وسيكون أجرك في الشهر سبعة جنيهات. فسررت بذلك، وأصبحت أحرص على إتقان العمل أكثر، والمواظبة على رضاه عني. وعندما مضى شهر آخر، أحضر لي مرتبي الشهري من الجنيهات، فقلت له: أبقها عندك، إلى أن أنتهي تماما من العمل وأرغب في العودة إلى بلادي، فأنا لا أحتاج إلى شيء منها، حيث لا أخرج أبدا من المزرعة.
مضت الأشهر المتوالية، والسنوات تباعا. وبعد أن مضى على عملي في المزرعة أربع سنوات، قلت له: إني الآن اشتقت إلى أهلي ودياري، وأرغب في العودة إليهم، فأطمع أن تعطيني مبالغ أجرتي خلال الأشهر التي اشتغلتها عندك. فقال لي: ليس الأمر بهذه السهولة. فعليك أولا أن تبحث لك عن قافلة تحملك إلى بلادك، لئلا تتعرض للسرقة من الحنشل الذين ينتشرون على الطريق. وأنت لك عندي 330 جنيها، فلم تكد الفرحة تفارقني، بانتظار الصباح والترتيب للرحلة. (الخاتمة والتعليق في المقالة التالية)!
falehajmi@