قررت فجأة أن أتوقف هنا، وأن أكتفي بالسلبية إلى حدود هذه الأسطر، وسحبت العنوان الذي كنت قد وضعته قبل أن أباشر في خط هذه الحروف.. والذي كان على شكل «أين يتجه بنا العالم؟»..
سحبته من جهة... لأنه سيقيد المقال ولن يجعله يعلو ويسمو. ومن جهة ثانية... اعتزلته لأنه بدا لي ولوهلة، أنه ضرب من الجنون أن أحاول الجواب عن سؤال خال من المنطق والإمكانية.
سأجرب الحديث عن الحاضر... كأول كلمة تبادر ذهني الملخبط في ساعة متأخرة من الليل. سأحاول جمع شتاته إذن بالانغماس في هذا الحاضر... فعلى الأقل المسافات بيننا منعدمة وهو أقرب لي من خيالي...
الحاضر هو القرار الذي تأخذه في لحظة استباقية لكل الأمور، تجعل منه شيئا حاسما ربما لا رجعة فيه، فتقرر وكفى... تلفظ الكلمة وتنفجر كبركان ألقى بشظاياه الساخنة.
الحاضر هو قلقك الآني، وهو الملل الذي يعتريك من كثرة تشابه الأحداث والذكريات والأزليات... تحاول الانسلاخ منه لضرورة استمراريتك.. فتنعته بما قد يفي بالغرض قبل حتفك، وتقرر عملية الفطام بنفسك.
الحاضر هو أين تجلس الآن، هو الموسيقى التي ترافقك الآن، هو كوب القهوة الذي يداعب شفتيك في هذه اللحظات البريئة من ماضيك ومستقبلك... لحظات تدب كقطار الزمن المتسارع والذي يسارعك.
الحاضر هو اللحظة الراهنة والرهينة بقيامك من مكانك الآن، لترفع من مستوى تحدياتك... فبإمكانك أن تتحدى العالم بأسره وأن ترسم باسمك الكون بكل عناصر... بإمكانك أن تحلق من هذه اللحظة خارج سرب الظباء.
الحاضر هو ما يقف بينك وبين رحم قطعتها منذ زمن مضى، حتى نسيت العنوان والأرض واسم القبيلة. غرورك وذاتك المتعجرفة تقودك بسياط الأنانية التي تحول بينك وبين أجر قد يشفع لك يوم ستقوم الساعة.
الحاضر هو الواقع الذي توجد فيه... بوعوده والتزاماته وبمبادئه وتوجهاته كذلك... الواقع الذي ينصف وهم الماضي ويؤجل هوس المستقبل، ويزرع فيك الأمل والنشاط وروح المثابرة من أجل غد سيصبح بدوره حاضرك.
الحاضر حاضر والغائب غائب عنا والمستقبل خفي عن أنظارنا... ومهما بلغت المصائب أوجها، فلكل شيء صلاحيته وتبقى الأيام القادمة أملا خلابا.
دمتم آملين.