بيروت مدينة هزها زلزال عنيف في الرابع من أغسطس 2020، هذا تاريخ ستحفل به الذاكرة، وتحتفظ به طويلا، هذه المدينة رغم الحروب والصدمات والمجاعات والصراعات فيها وفي لبنان الكبير بقيت خالدة بشكل أكبر ومنحازة إلى جوانب الحب، والفرح، والثقافة، والجمال. لبنان وعبر بوابته المشرعة للجميع كان ملاذاً تقليديا للعرب ولكل الجنسيات، وكان بيتا كبيرا يتسع الجميع ويبعث فيهم الفرح. أذكر قبل عقود طويلة وكنت طفلا في آخر المرحلة الابتدائية زارتنا في المنزل إحدى قريبات السيدة والدتي رحمها الله، وكانت فتاة شابة في أولى سنين زواجها ورافقت زوجها في بعثة عمل، ودراسة إلى لبنان، وصادف أن زيارتها لوالدتي بعد عودتهم من لبنان، أو لم يمض وقت طويل على عودتهم منه، المهم كنت أتابع حديث تلك الزوجة الشابة عن لبنان، وبيروت بالتحديد وأتصور ما تحكيه للنساء من مشاهد، وبقي في ذاكرتي إلى اليوم وصف تلك الزائرة لبيروت بأنها مدينة وسط حديقة كبيرة والناس يسيرون ويمدون أيدهم لقطف الثمار في الطرقات. خيالي الصغير في تجسيد المشاهد المحكية احتفظ لبيروت بهذه الصورة الانطباعية. وبقيت الصورة العامة للبنان سويسرا الشرق ولبيروت باريس العالم العربي، كل هذه الذكريات، والصور الجميلة. إلا أن الدنيا تدور، والعالم يتغير، والأفكار البسيطة والوردية تتبدد لأسباب كثيرة أهمها كما أرى، بسبب السياسية، وألاعيبها ودهاليزها، وبسبب بحث الدول عن القوة والنفوذ، والتأثير، عبر الهيمنة على الدول أو الوحدات السياسية الأضعف، أو الأصغر في المنظومة الدولية، ولبنان منذ أن تأسس كوحدة اجتماعية سياسية كان ضعيفا من حيث بنيته الداخلية التي تقوم على توازنات دقيقة داخلية بين مكونات الجسد السياسي والاجتماعي الديمغرافي اللبناني. الأمر الآخر أن هناك مقولة انتشرت وعكست صورة نمطية عن لبنان في محيط السياسة الدولية، وإلى حدٍ ما العربية تقول: إن قوة لبنان تنبع من ضعفه. وهذه مقولة سقطت عند الاختبار أكثر من مرة، المرة الأولى عند اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية والتي استمرت عقدا ونصف العقد من الزمان. 1975-1989 كان سببها الرئيس ضعف لبنان سياسيا وعسكريا، وتدخل الدول المجاورة وأيضا فاعلون ما دون الدول فصائل وتشكيلات لبنانية وعربية في التأثير على التوازن الحساس جدا في لبنان من خلال امتلاك السلاح، وترحيل المشاكل إلى لبنان.
المجتمع الدولي، والمحيط العربي ساعد لبنان بشكل جاد عبر السعي السياسي الحثيث لإخراج لبنان واللبنانيين من دوامة الحرب الأهلية، فكان الدور العربي السعودي الذي أنتج اتفاق الطائف الشهير وأنهى الحرب، وكانت أبرز بنوده دولة وطنية للبنانيين جميعا، وسلاح بيد الدولة الوطنية فقط. وبدأت الحياة تدب في لبنان من جديد وكانت فترة إعمار لبنان، وكما نقول دائما تقلبات الزمن وأحوال السياسة والأطماع الدولية لا تترك البلدان المسالمة تبني نفسها بل تحاول استخدامها كمواطن نفوذ وتأثير، وبرزت أولى نقاط الخلل في النموذج اللبناني في منح فصيل أو حزب فرصة الاحتفاظ بالسلاح، وهو حزب الله الذي نمى بشكل ملحوظ وأصبح بوابة للسياسة، والأمن اللبنانية في أقل من عقد ونصف العقد من الزمن. هذه الثغرة الثانية التي فتت في عضد مقولة القوة تكمن في الضعف. ومع الأيام سيطر الحزب من خلال الدعم والميزانية السخية السنوية مما يسمى بالجمهورية الإسلامية في إيران. حزب ذو أهداف بعيدة خدع دولة ومجتمع سياسي ضعيف بحجج كاذبة منها المقاومة والممانعة، كم كان محزنا ومأساويا أن يتقدم الآلاف من الشعب اللبناني رجال ونساء إلى الرئيس الفرنسي الذي زار مدينتهم المنكوبة بعريضة يقترحون عليه فيها إعادة الانتداب الفرنسي على بلادهم. من السبب؟ السياسة هي السبب.
ومن اختطف السلطة والدولة بقوة السلاح، وقتل الجمال فيها ونشر الخراب هو السبب.
salemalyami@