الذهنية العربية قاربت مفهوم التطبيع منذ وقت متأخر نسبيا في أواخر سبعينيات القرن الماضي عندما عقدت جمهورية مصر العربية أول اتفاقية تطبيع للعلاقات مع إسرائيل، في عام 1979م، ولأن كل دول العالم العربي تقريبا عارضت هذه الاتفاقية، أي عارضت بشكل ضمني مفهوم التطبيع الذي تواجهه للمرة الأولى في تاريخها مع جهة بعينها، وأصبح مصطلح التطبيع حتى بدون إضافة كلمة العلاقات إليه مصطلحا قائما بذاته في ذهنية السياسة العربية، وأكثر من ذلك أن هذا الفهم الشعوري والمثقل بالبعد النفسي للمصطلح كونه يتوجه إلى بلد واحد فقط هو دولة إسرائيل، أصبح سبة سياسية عربية، وعبارة تخوين وعمالة تكاد تكون مطلقة. حتى أنه استخدم كمصطلح سياسي ذات دلالات عالية السلبية بين الفصائل الفلسطينية ذاتها وفي الدوائر الضيقة للعمل السياسي الفلسطيني، حيث درجت بعض الفصائل على وصم الآخرين المنافسين لها، بهذا المصطلح، كما لم يسلم منه الشارع السياسي العربي العريض الذي أعطى دفعة للمصطلح وأحيا استخدامه عبر وصم الآخرين به. ومن شدة تأثر الذهنية السياسية العربية المعاصرة بالمصطلح نشأت في بعض الدول العربية جهات، وجبهات، وتجمعات سياسية اقتصر عملها على مضادة التطبيع، وكانت البداية في جمهورية مصر العربية، بعد اتفاق كامب ديفيد المشار إليه، وانتشرت هذه الحالة في غير بلد عربي شهدت بروز لجان مهمتها مناهضة التطبيع. في مفهومه المحور، أو المكيف عربيا.
ولعل أول عمل سياسي جماعي عربي اقترب من مفهوم التطبيع في نسخته العملية والنظرية كمعطى سياسي يتداول بين دول المجموعة الدولية، ويرمي في معناه البعيد لإقامة علاقات عادية بين الدول تحفها الصداقة بدل العداء، والتعاون بدل الصراع، بدا واضحا دون لبس في مبادرة السلام العربية سنة 2002م أي قبل ما يقرب من عقدين من الزمن حيث ورد في النصوص الصريحة للمبادرة أن تقوم الدول العربية، والإسلامية بالتطبيع مع إسرائيل، على أن يكون السلام بين الطرفين قبل الصداقة، والتعاون الدولي التقليدي، مقابل الأرض التي تقوم عليها دولة فلسطينية، بحدود معينة مكانيا، وزمانيا. وبوجود عاصمة معروفة ومحددة، وبقبول إيجاد آلية لعودة الناس أهل الأرض إلى ديارهم. كانت وما زالت هذه المبادرة من أنجع، وأشجع المبادرات التي طرحت لتسوية النزاع الفلسطيني العربي الإسلامي مع الجانب الآخر، ولقيت ترحيبا دوليا واسعا، حتى أن أطراف دولية أوروبية حثت الجانبين لاتخاذ خطوات شجاعة لتحويل تاريخ الصراع الذي ساد في هذه المنطقة لعدة عقود إلى سلام، وتطبيع بمعناه النظري التقليدي أي علاقات بين دول تكون طبيعية وتحاط بأطر التعاون والصداقة بين الدول والشعوب.
لذا فلا يستغرب اليوم ونحن نتابع تطورات إعلان دولة الإمارات العربية المتحدة عبر الوساطة الأمريكية النية لتطبيع العلاقات مع دولة إسرائيل، فنحن ما زلنا نتعامل مع بقايا الفكر السياسي العربي القديم، المتأثر بالثقافة السياسية التي أنتجتها سنوات الصراع، خلال العقود الماضية. اليوم المنطقة العربية بما فيها فلسطين والشعب الفلسطيني وقضيته تعيش حالة حصار وحرب معلنة وغير معلنة تستهدف الثروة العربية عبر تفتيت الدولة السياسية العربية، وتذويب مؤسساتها واستبدالها بالميليشيات وجماعات الإسلام السياسي. وفي مقدمة الوحدات المستهدفة السلطة الفلسطينية التي يتوجب عليها إنتاج حالة جديدة من الوحدة والوعي بخطورة التطورات السياسية الدولية والإقليمية لتساعد ما تبقى من الجسد السياسي العربي على إنتاج حالة متوازنة تحفظ للعرب والفلسطينيين وجودهم وسط بحر متلاطم من الطامعين والطامحين والمتربصين بالدول العربية، وشعوبها.
salemalyami@