كان الفلاسفة المهتمون بالمبادئ الأخلاقية من ذوي الاتجاه الإنساني، بدءا من اليونان، وعلى وجه الخصوص أرسطو في القرن الرابع قبل الميلاد (في كتابه المعروف في الترجمات العربية بعنوان: «نيقوماخوس»)؛ يؤكدون أنه لكي يكون المرء فاضلاً، فإن عليه أن يتحلى بقابلية للقيم الاجتماعية، وأن الشريرين هم وحدهم من يستطيعون أن يتنعموا بمفردهم. لكن أفكار عصر النهضة اختلفت عن تلك الفلسفة القديمة؛ حيث نجد ميشيل دي مونتان (في القرن السادس عشر الميلادي) يفلسف هذه القضية من منطلق، أن بذل الجهود للحصول على الشهرة، أو صرف الأوقات لمتابعة المشاهير تؤدي إلى صنع حواجز ضخمة تحول دون الشعور بالهدوء وراحة البال. فمن يسخّر حياته للبحث والتقصي بشأن أهداف الآخرين في الحياة، وينغمس في إرضاء الحشود (وبالطبع الأتعس منه من يصرف أوقاته في متابعة أولئك التافهين، ومدى تأثيرهم في العامة أو تأثرهم بها)؛ فإنه سيقضي حتماً على شخصيته، وتتلاشى حياته الخاصة، ويصبح عرضة للتقلبات وفقاً لأمزجة البسطاء وظروف الزمان.
وقد استمرت هذه الأفكار في فلسفات القرن التاسع عشر الميلادي، خاصة لدى فريدريك نيتشه، الذي كان يصف العزلة بأنها ضرورية لاختبار النفس، وأنها (أي العزلة) يمكنها بمفردها أن تحرر البشر من الإغراءات الناتجة عن الشعور بالرغبة في تبعية المرء المطلقة - دون تفكير- لجموع الناس. وكون جموع العامة غالباً تتبع المشاهير، فإن هذه التبعية العمياء تصبح خاضعة لنزوات المشاهير في المجتمع. ومما لا شك فيه، أن سيطرة أفكار الغوغائية على العامة، وانسياق الناس خلفها، هي أحد مسببات كوارث الحرب العالمية الثانية، التي خضعت فيها الشعوب لأفكار متطرفة قام بتسويقها دعائيون بارعون في الغوغائية.
والشيء نفسه ينطبق على مشاهير القرن الحادي والعشرين، الذين أظهرت غثاءهم وسائل التواصل الاجتماعي، خاصة في مجتمعاتنا الشرقية، وأصبحت أعداد المتابعين لكل مشهور منهم هي معيار كفاءته في الحديث أو التحليل أو تسويق الأفكار، حتى لو كان لا يفقه أبجديات ما يتحدث عنه. فكل مقومات أولئك المشاهير لا تتعدى شكلاً مقبولاً، ولساناً قادراً على الفذلكة بلغة شعبية لا تخلو من كم كبير من السخرية (إن كان رجلاً)؛ وشكلاً جذاباً، وجرأة على تمرير كاميرا التصوير على أماكن ذات خصوصية شديدة من الجسد أو الإيحاء بالمكنون المفهوم ضمناً (إن كانت امرأة).
وإذا أردنا تناول شهرة من يُسمَّون «المؤثرين» في عالم التواصل الاجتماعي (أو السوشال ميديا، كما يود المهووسون به دائماً تسميته) في إطار تلك الفلسفات المذكورة أعلاه، فإننا سنجد أنهم يؤثرون أكثر ما يكون في خلق التوتر وتعكير المزاج لدى كثير من الأسوياء (وأقصد على وجه الخصوص مشاهير الشرق، الذين أتوا إلى باب الشهرة عرضاً، وبوسائل غير حميدة). فهم قد حصلوا على شهرتهم بسبب أولئك المغفلين الذين لا يستفيدون من تلك المتابعة أي شيء سوى التوتر الداخلي، وربما شيئاً من ملء الفراغ، لأنهم (أي جمهور أولئك المؤثرين) غالباً فارغون، لا يستطيعون عمل شيء مفيد بأنفسهم. وستبقى هذه الدائرة فاعلة في إنتاج هذا الغثاء من سقط المتاع، الذين يفر بعضهم من مجتمعه إلى بعض البلدان الغربية، لينغمس من هناك في عرض ما يتعارض مع قيم مجتمعه، ويحصل على التمويل الهائل من الإعلانات التي تُدفع بسبب أعداد المتابعين الفضوليين.
falehajmi@