لذلك تبقى الأرض متخيلا رمزيا لا تنضب دلالاته ولا إيحاءاته، فالشعوب لا تعيش في رقعة جغرافية لها امتيازاتها المناخية أو امتيازاتها المكانية ولا شيء آخر غير ذلك، ولا تصر بأسنانها على رائحة ترابها أو أيديها على شجر بيوتها دون سبب مقنع وملح.
هي تعيش على هذه الأرض؛ لأنها ترى فيها وجودها الذي لا يتحقق ولا يكون إلا بها، ترى فيها حياتها التي لا تعرف حياة سواها.
وإذا ما انتزعنا كلمة «الأرض» من لغتها التجريدية المجازية، التي جاءت في سياق هذا الكلام؛ فإن أقرب كلمة وريثة لها، عند تجربة الشعوب في مجرى حياتهم على الأرض هي كلمة «الوطن».
فما الصلة، التي أتاحت لنا فيها الربط بين الاثنين أو الكلمتين؟
الأرض بلا استثناء تشمل الجميع بمَنْ فيها الكائنات غير البشر، بينما الوطن خاص يتكئ على جماعة من البشر ترى إلى نفسها مجموعة من الخصائص والسمات، التي ترتبط أشد الارتباط بحياتها في هذه البقعة من الأرض، والتفاعل بين مجموع هذه الخصائص من جهة والبقعة من الأرض من جهة أخرى يسمى وطنا.
إذن الوطن هو الرافعة، التي تتحقق من خلالها التجربة الحياتية لتلك الفئة من البشر، والتعبير عن هذه التجربة تتمثل عندها في منظومة من القيم كالمحبة والكراهية والخوف والحزن والفرح والكرم والتوجس والريبة والمخيلة.. إلخ.
بحيث تعمل هذه القيم في صوغ الشخصية، التي تنتمي إلى هذه الفئة من البشر.
بعد هذا التأمل النظري الموجز، ما الذي تمتاز به الشخصية السعودية وفق التصور في العلاقة بين الأرض والوطن؟
أولا- الشعور بعمق الانتماء، وهو شعور لا يمكنه أن يكون مجانيا أو مكتسبا عن طريق العادة والتقليد (وأنا هنا لا أعني تقاليد القبيلة ولا الجانب الاثني أو المذهبي من الانتماء)، بل هو في عمق لا وعي الشخصية، الذي يوازي في مستواه عمق تراث الجزيرة العربية الضارب بجذوره في القدم، والذي يريد التأكد من ذلك، ما عليه سوى الاطلاع على التراث السردي والشعري بشقيه النبطي والفصيح والعجائبي القصصي، حتى يخرج بقناعة، مثلما قلنا سابقا وهي أن الأرض متخيل رمزي تم توظيفه بقصد أو دونه لاحقا؛ كي يتأسس عليه وطن.
ثانيا- لا بد من النظر إلى أن التفاوت في تلقي قيمة الوطن، تختلف من بيئة جغرافية إلى أخرى في أنحاء المملكة بحكم اتساعها واختلاف تجارب الحياة فيها، فالاختلاف هو في طبيعة الحياة وليس في قيمة الوطن.
هنا تأتي قيمة المقولة، التي تتجسد بكامل دلالاتها «الاختلاف في إطار الوحدة».
وإذا كانت أوروبا بعد قرون وبعد حروب دينية طاحنة وحربين عالميتين استطاعت أن تتوحد تحت ما يسمونه الاتحاد الأوروبي؛ فإن الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- استطاع بحنكته وذكائه وشخصيته الفذة أن يقوم بهذه المهمة على خير وجه، والمفارقة أنه لم تسبقه تجارب وحدوية في الجزيرة العربية حتى يستلهم منها مفهوم الوحدة. ناهيك أن خطاب القبيلة ليس كالمجتمع الأوروبي يسهل تطويعه ضمن دولة.
لأجل كل ذلك نقول: إن الجامع المانع في المعنى العميق، الذي تعطيه الشخصية السعودية للوطن هو الاختلاف ضمن حدود الوحدة، التي جرت على يد المؤسس.
[email protected]