شبكات سرية
أعاد الرئيس رجب طيب أردوغان تشكيل النظام الدستوري الديمقراطي إلى نظام رئاسي تنفيذي لا يستطيع تحمّل أي مسؤوليات، في عملية تسارعت بعد الانقلاب الفاشل في 15 يوليو 2016. وعلى الرغم من أن هذا النظام الجديد كان بلا شك انحرافًا واضحًا من نواحٍ عديدة، واجه المستحوذ العلماني والديمقراطي السابق للبلاد مقاومة قليلة جدًا ضد الجهات الفاعلة القوية في المؤسسة.
يمكن القول إن أحد العناصر الرئيسية لإنجاز أردوغان في تحطيم أي مصادر للمقاومة المحتملة، وتعزيز حكمه، يكمن في نجاحه في استمالة شبكات سرية مختلفة.
رشوة المعارضة
تُعرف المشاركة أحيانًا على أنها «رشوة» المعارضة، وهو شكل من أشكال التعاون، حيث يمنح شاغل الوظيفة مكانة داخلية أو مزايا سياسية إلى خارج النظام مقابل ولائه. ومن خلال اختيار شبكة أو وكيل، يقضي القائد على المنافسين، ويشكّل صورته العامة من خلال قادة اجتماعيين يتمتعون بالمصداقية ويحافظ على السيطرة دون استخدام أساليب قمعية. يتم إقناع الممثل المختار بعدم ممارسة سلطته لعرقلة النظام واستخدام الموارد التي تتوافق مع متطلبات الحاكم بدلًا من ذلك.
يمكننا تعريف الشبكات السرية على أنها منظمات سرية، وجمعيات سرية، وشبكات غير مشروعة أو مظلمة، وتجمّعات سرية. هذه الشبكات تعمل في أماكن مخفية، وأفرادها غير معروفين لبقية المجتمع ولديهم أهداف غير واضحة. يحافظ أعضاؤها على سرية انتماءاتهم ويخفون الأنشطة التنظيمية.
وفي بعض الحالات، يعملون في ظل هذا الغموض لدرجة أنه لا يمكن حتى ملاحظة إذا كانوا موجودين بالفعل أم لا.
الدولة والمافيا
وكان حادث سوسورلوك عام 1996 هو الذي كشف لأول مرة عن مثل هذه الشبكات داخل المؤسسات الأمنية التي كانت تشارك في عمليات سرية غير قانونية وغير رسمية. قُتل عبدالله جاتلي، قاتل ومهرّب مخدرات مطلوب لدى الإنتربول، وحسين كوجاداغ، نائب رئيس شرطة إسطنبول السابق، في حادث سيارة في سوسرلوك. وأصيب عضو البرلمان سيدات بوكاك زعيم قبيلة كردية متحالفة مع الدولة ضد المتمردين الأكراد.
وعُثر في السيارة على عدة وثائق مزوّرة وكميات وفيرة من المخدرات والأسلحة والمال. وفي أعقاب الحادث، تم الكشف عن صلات بين الدولة والمافيا، بالإضافة إلى أعمال غير مشروعة من قِبَل المخابرات التركية ووكالة مكافحة الإرهاب (جيتيم)، ووحدة القوات الخاصة (أوزيل حاريكات).
واليوم، وعلى الرغم من أنه من غير الواضح أي مجموعة أو زعيم منهم هو الذي يتحكم فعليًا، يبدو أن تركيا عبارة عن مجموعة كبيرة من الشبكات السرية تتكوّن من مسؤولين عسكريين نشِطين ومتقاعدين، وبيروقراطيين، ورجال أعمال، وأكاديميين، ودعاة دينيين، وصحافيين، ورجال مافيا.
دعم أردوغان
وهناك مجموعة واسعة من الشخصيات التي تدعم مبادرات أردوغان بحماسة: مثل اليميني المتطرف وزعيم المافيا علاء الدين جاكيجي، ورئيس الطريقة النقشبندية أحمد محمود أونلو، وزعيم حزب الوطن القومي اليساري المتطرف، دوغو بيرينشيك.
ولكن ما يُثير الدهشة هنا، هو أن الجيش، الذي من المفترض أنه كان كماليًا، يُظهر بعض علامات التأييد الصامت لهذه الحالة. ربما لهذا السبب يقول البعض إن أردوغان انتصر في النهاية على الدولة العميقة لتركيا، بينما يؤكد آخرون أنه ببساطة أنشأ دولة جديدة تحت سيطرته.
وقد تكون الحقيقة أكثر فوضوية من أي من الخيارين، وهناك شكٌّ حقيقي وعميق حول مَن يحكم البلاد بالفعل.
الدولة العميقة
اعترف أردوغان نفسه بالدولة العميقة منذ أيامه الأولى في السلطة.
وفي نقاش متلفز في عام 2007، عقب مقتل الصحافي الأرميني، هرانت دينك، قال أردوغان إن الدولة العميقة «كانت موجودة دائمًا، ولم تبدأ بجمهورية تركيا». وأضاف إن مثل هذا «التنظيم الشبيه بالعصابات في المؤسسات» يجب القضاء عليه إن أمكن، إن لم يكن، تقليله إلى أدنى حد.
وقال أردوغان في عدة مناسبات إن سجنه لمدة أربعة أشهر في عام 1999 والذي أدى إلى حظره من السياسة، فضلًا عن الاعتراض الصريح على محاولة عبدالله غول الوصول للرئاسة في عام 2007، كان نابعًا من «آليات الوصاية» التي كان لها تأثير في تركيا. وتم فتح باب التحقيق في حادثة أرغينكون، الذي واجه فيه كبار المسؤولين العسكريين وحلفائهم المدنيين عقوبة السجن واتهامات بالتآمر للإطاحة بالحكومة المنتخبة، في عام 2007 ووصفته حكومة أردوغان بأنه المعركة الكبرى ضد الدولة العميقة.
غولن وأردوغان
وخلال هذا الوقت، كان كل من أردوغان وحزبه العدالة والتنمية على علاقة طيبة مع الداعية الإسلامي فتح الله غولن، الذي عاش في الولايات المتحدة لأسباب صحية. وكثيرًا ما أشاد المسؤولون الحكوميون بغولن، وطالبه أردوغان نفسه بالعودة إلى تركيا. ومع ذلك، عندما انهار هذا التحالف في ديسمبر 2013 بفضيحة فساد، وجّهت لوائح اتهام إلى أفراد من عائلة أردوغان ووزراء في حكومته، اتخذ الرئيس منحى براغماتيًا وتعاون مع خصومه السابقين، الأورآسيويين والقوميين المتطرفين، الذين تمت إدانة معظمهم في قضية إرغينكون.
نظام استبدادي
وفي النهاية، رفضت المحاكم العليا في تركيا القضايا المتعلقة بأرغينيكون؛ بسبب أدلة غير قاطعة، وأصبح المتهمون الذين تمّ إطلاق سراحهم من أنصار أردوغان. وبالتالي، بدلًا من أن تكون هذه التحقيقات خطوة رئيسية نحو ترسيخ الديمقراطية في تركيا، أصبحت هذه التحقيقات نقطة انطلاق نحو توطيد النظام الاستبدادي.
ومع ذلك، يعتقد بيرينشيك أن هذه الخطوة جعلت أردوغان عُرضة للخطر. وقال السياسي القومي العام الماضي، إن أردوغان لم يحكم تركيا منذ 2014، لكنها هي التي كانت تحكمه. وقال في مقابلة مع صحيفة «إندبندنت» «أعني بتركيا الجيش والشرطة ورجال الأعمال والعمال وحزب الوطن».
ستستمر سلسلة المقالات هذه بإلقاء نظرة فاحصة على الديناميكيات على أرض الواقع، وكيف اختار أردوغان الشبكات السرية الحالية، ووضعها في كوادر الدولة والأجهزة الأمنية، وآثارها المستقبلية على تركيا.