لكن يجادل موقف عبدالناصر بموقف آخر، وإن كان لا يأتي في سياق الحقبة ذاتها. لكن كما يشير هو إلى أن مبدأ المصلحة في أغلب الأحيان لا يتعارض مع المبدأ الأخلاقي، ويدلل - مثلا - بموقفين اثنين: الأول حالة لويس الرابع عشر عندما ألغى عام 1685م مرسوم نانت الذي يكفل حرية المعتقد للأقلية البروتستانتية، حيث أسهم هؤلاء بعد طردهم من فرنسا إسهامات كبيرة في أمستردام أو لندن. والمثال الآخر هو طرد ملوك الكاثوليك للمسلمين واليهود غداة سقوط غرناطة عام 1492م.
بل يرى في موقف مقارب من عبدالناصر موقف نيلسون مانديلا الذي استوعب البيض بعد انتصاره ولم يطردهم واعتبرهم شريكا أساسيا في بناء الدولة، بينما عبدالناصر حمل الرعايا مساوئ النظام الإنجليزي الغربي.
ويتساءل في إطار فهمه لهذه الحقبة: لماذا كان عام 1979م هو عام - كما يسميه - «سنة الانقلاب الكبير»؟
لأن الأحداث التي تجسدت، رغم عدم وجود سبب ظاهري يربط بينها أو حتى يشير إليها من بعيد، إلا أنها تعبر في النهاية عن المسار ذاته وهو تحول المزاج العام من اليسار إلى اليمين، ففي وقت الثورة المحافظة التي جاءت بها مارغريت تاتشر عند انتخابها في 4 مايو 79 لم يجرؤ أحد من اليمين إلا قلة أن يقول: أنا يميني، أعارض النقابات والإضرابات أو الاهتمام بمصير العمال، ثم بعدها حدث العكس منذ بداية الثمانينات وعم أوروبا.
هذه الثورة المحافظة لم تكن لتنجح لولا ما تحقق من نصر للجمهوريين عند انتخاب ريغن 20 يناير 81 م في ذات الاتجاه بعد ثمانية أشهر من انتخاب تاتشر.
حيث استخدم ريغن في حملته الانتخابية، ولتبرير موقفه المحافظ صورة المرأة المتخيلة التي تمثل ملكة الرعاية الاجتماعية، وهي تعيش عيشا رغيدا على حساب معونات الدولة دون أن تعمل وتكد وتتعب. وكأنه كان يقول إن الفروقات بين الفقراء والأغنياء ليس بسبب المال، وإنما بسبب الذين لا يعملون وركنوا إلى الكسل. ثم ترسخت هذه الصورة في نظام الدولة الذي يأخذ المال من الذين يعملون ويعطي إلى الذين لا يعملون.
هاتان الثورتان بالنسبة له هما الأهم. لكنهما ليسا هما السبب فقط في الإطاحة باليسار في العالم، الأزمة النفطية في السبعينات، سقوط الشاه، إعدام علي بوتو، دخول القوات السوفيتية أفغانستان.
قد لا يوجد ترابط سببي بينها. لكن فتحت الباب على ظواهر نراها مرأى العين أمامنا اليوم أهمها إشكالات الهوية وبروزها، وضياع التضامن الاجتماعي.
[email protected]