سيفقد أهم عنصر في الحياة القائمة ألا وهو الخبرة الحياتية التي يكتسبها الفرد من جراء التنوع الذي يقوم عليه العالم: تنوع في العلاقات الاجتماعية والبشرية، التنوع في اكتشاف أسرار العالم وثقافاته والشعوب وتاريخها من خلال الأمكنة أو الجغرافيا، وهكذا فالإنسان لم يخلق كي يسير على نمط واحد في تطوير خبراته المعرفية والإنسانية، وهذا ما لا توفره له العوالم الافتراضية، مهما أدعينا أن ثمة إيجابيات تقوم بها هذه العوالم، من تدفق للمعلومة وسهولتها، وسهولة التواصل بين البشر إلى آخر ما توصل له الذكاء الاصطناعي.
لكن قد يعترضني أحدهم بالسؤال التالي: وما وجه التعارض بين هذا وذاك، بين عالمه الافتراضي وبين خبرة التنوع في الحياة المعاشة؟!
قد لا أجد إجابة موضوعية أو عقلانية عن هذا التعارض، لذلك قلت إنه إحساس ممزوج بالخوف والريبة لأن ما أراه - حسب متابعتي لتويتر أو الإنستجرام والفيسبوك - من حماس وشغف للإقبال على جميع أشكال الثقافة يبدو لكل مراقب شيئا مفرحا ومحببا ودليلا على القيمة التي يحتلها الكتاب والثقافة عند فئة الشباب تلك.
هذا ما يبدو على المدى القصير. لكن ماذا لو نظرنا أبعد من موضع أقدامنا وأفق أبصارنا أي على المدى البعيد وأيضا المتوسط؟
سيكون الوضع ليس مثلما هو قائم عليه الآن، أو أنه سيكون (الوضع) امتدادا لما هو قائم عليه الآن، ولو جاء هذا الامتداد منطقيا فيما نراه الآن من شغف وحماس. لأسباب أراها تتمثل أمامي كالتالي:
حسب تجارب جيلي في القراءة والكتابة منذ أكثر من عقدين مضت على الأقل، لم يكن نظام القراءة يحتاج إلى وسيط، فأنت متوحد مع الكتاب، لا يعلم بوجوده أحد وكأنه في غالب الأحيان كنز تخفيه عن الأنظار، وهذه الحالة لم تفرضها ظروف عدم توافر وسائل التواصل الاجتماعي فقط، بل كان هناك شعور عام ارتبط بالندرة في وجود الكتاب والحصول عليه، وبالتالي انعكس في اتباع سلوك الكتمان والتستر على الكتاب وعلى ما بداخل الكتاب، بخلاف ما هي العلاقة القائمة عليه الآن، فالوسيط هو أن يصبح المرء مرئيا في جميع حالاته من بداية شرائه للكتاب وأسباب انتقائه إلى تصفحه إلى استعراض صفحاته، وكأن القارئ للكتاب في شبكة التواصل الاجتماعي يصبح هو المقروء في نظر المتابعين له. وهذه العلاقة أشبه ما تكون بالعلاقة النمطية التي يدخل في لعبتها الجميع بلا استثناء، وحينما أخص فئة الشباب تحديدا كونهم لا يملكون خيارا آخر يركنون إليه في حال سئموا من هذه اللعبة واكتشفوا خطورتها على إدراكهم ووعيهم بتنوع وثراء الحياة من خارج هذه الشبكات، لأنه ببساطة لا وجود لهم لما قبل التواصل الاجتماعي أو العالم الافتراضي، غيرهم من الأكبر سنا يملكون هذا الخيار.
يضاف إلى كل ذلك هناك توجه مقصود من طرف الشركات التي تدير هذا العالم الافتراضي لسلب إرادة الحياة وجعلها مشدودة إلى داخل هذا العالم، وليس أطوع إرادة من الشباب.
[email protected]