وعند الدخول في تحليل الثقافة الأمريكية، نجد أن الثابت في الحياة العادية للأفراد أن ثقافتهم في المجمل ليست ثقافة دينية صرفة، ولكن حين يدقق أي مراقب في هذه الثقافة فكريا وسياسيا يرى أن المظاهر الدينية المسيحية تحديدا حاضرة وبقوة في مناحي كثيرة من تشعبات هذه الثقافة وأحوالها المختلفة، ولنبدأ على سبيل المثال بعرف سياسي أمريكي دائم يظهر فيه وبجلاء تام لفتة دينية واضحة لا لبس فيها تتمثل في وجود عبارة دينية منصوص عليها في القسم الرئاسي الأمريكي يختم بها كل رئيس جديد أداءه لهذا القسم وهي عبارة “So help me God” وترجمتها الحرفية تقول “فساعدني يارب” وهذا أول معلم سياسي له ارتباط ديني واضح وجلي، يناقض تماما تبني أمريكا للعلمانية بالكامل كتوجه عام للدولة وكذلك نجد أيضا أن نفس هذا المظهر الديني يطبق حرفيا في المحاكم القضائية الرسمية وكذلك في جلسات الاستماع لدى الكونغرس الأمريكي أو مجلس النواب كما أن هنالك معلما دينيا لا يقل وضوحا عن سابقيه يتمثل في أن جميع عملاتها النقدية المعدنية منها والورقية تحتوي دائما على عبارة “In God we trust” والتي تعني حرفيا “نحن نثق بالرب” يضاف إلى ذلك أن معظم الخطابات الرسمية والوطنية التي يلقيها عادة الساسة ومن هم على شاكلتهم تختتم في أغلب الأحيان بعبارة “God bless America” وهي تعني بالعربية “فليرحم الرب أمريكا” وجميع هذه الشواهد الدينية تؤكد بأن العامل الديني حاضر جدا في الحياة الأمريكية وبالذات الرسمية ووجود هذا العامل في حد ذاته لا يعد عيبا في حق أمريكا كدولة وشعب، وإنما العيب يكمن فقط في إدعائها ما يخالف ذلك وأخص بالذكر إدعاء أمريكا تبنيها للعلمانية فكرا وسياسة بل أكثر من ذلك إدعاؤها بأنها زعيمة العلمانية الأولى في العالم رغم أن جميع الشواهد الدينية سالفة الذكر تشير وبدرجة عالية من الدقة إلى أن أمريكا لا تتبنى العلمانية حرفيا وبشكل كامل كما تنص على تعريفها القواميس والمعاجم السياسية والفكرية؛ مما أضر كثيرا بسمعة القرارات والخطوات التي تتخذها أمريكا والتي تطالب فيها العالم أجمع بالتفاعل معها إيجابيا، إلا أن الواقع يقول إن العكس تماما في أحيان كثيرة هو ما يحصل والسبب في ذلك يعود لظهور تناقض (أحيانا ولا أقول دائما) بين مواقفها الفكرية والسياسية من جهة وبين أيدولوجيتها العلمانية البحتة التي تدعي تبنيها من جهة أخرى.
وهذه القراءة التي أزعم تجردها من أية أحكام مسبقة للواقع الأمريكي، تقودنا ختاما إلى ضرورة التنبيه على أهمية التزام كل دولة بأي أمر تعلنه وأهمية الوضوح والشفافية والصدق في تبني وممارسة هذا الأمر، خاصة إذا تعلق هذا الأمر بإعلانها تبني منهج معين في إدارة كافة شؤونها وسياساتها، وكذلك في إدارة حياتها العامة والخاصة لأن اكتشاف ما يناقض هذا التبني عند قراءة الواقع الفعلي والممارسة الميدانية لسلوك هذه الدولة وتصرفاتها سيؤدي حتما إلى حدوث أمور سلبية من أبرز ملامحها انعدام الثقة في مدى صلابة مواقف هذه الدولة، وأيضا في عدم نكوصها لاحقا عنها.
ahmed_baniqais @