إهانة العثمانيين
وأشار المحلل إلى أنّ معاهدة «سيفر» كانت إهانة ساحقة للعثمانيين، حيث عرضت تفكيك إمبراطورية السلاطين، وتركت دولة منهكة يمكن أن يلعق فيها الشعب التركي جراحه.
واحتشد الأتراك حول المارشال الميداني مصطفى كمال أتاتورك، القائد العسكري العثماني الوحيد الذي لم يهزم في الحرب العالمية الأولى، وكان العقل المدبّر للدفاع التركي عن غاليبولي، وهو نصر محوري شكّل الهوية التركية بقدر ما شكّل «ترافالغار» الهوية البريطانية.
ووفقًا لما نقله موقع «أحوال» عن المحلل: من رماد الإمبراطورية العثمانية الغابرة، تجنب أتاتورك الأيديولوجية السياسية وأشعل نار القومية التركية العلمانية، وغير راضٍ عن الشروط المفروضة في «سيفر»، ليطلق حرب الاستقلال التركية، مع اليونان وفرنسا والمملكة المتحدة، من بين دول أخرى.
وتحت قيادة أتاتورك، خرجت الحركة الوطنية التركية منتصرة على منافسيها، واستردت عددًا من الأراضي المفقودة وأقامت تركيا علمانية حديثة.
أصوات التاريخ
إذن، فإن انتصار دولة تركية جريئة على القوى الغربية التي تسببت في سقوط العثمانيين من النعمة هي قصة متأصلة بعمق في الثقافة السياسية التركية، ومع ذلك، كانت هناك دائمًا أصوات عبر تاريخ البلاد الحديث أعربت عن عدم رضاها عن الأحداث التي وقعت قبل قرن من الزمان، معتقدة أن أتاتورك لم يدفع بعيدًا بما يكفي في معاهدة «لوزان».
هذه الأوهام لم يعبّر عنها سوى أردوغان، الذي طالب بإعادة التفاوض على المعاهدة عندما زار أثينا في ديسمبر 2017، وكانت أول زيارة من نوعها إلى اليونان من قبل رئيس دولة تركي منذ 65 عامًا.
ويرى مكسوت سيريم، كبير مساعدي الرئيس، الملقب بـ «الحارس السري» لأردوغان، أن المعاهدة قد انتهت، وفقًا لمحادثة هاتفية تم التنصت عليها وتم تقديمها إلى محكمة تركية.
وبحسب المحلل لقد صاغ أردوغان عقيدة سياسية جديدة، حيث أخذ القومية التركية القوية لأتاتورك وصبها بطموح عثماني جديد انتقامي وأجندة راديكالية، وقد ولّد هذا شعورًا بالعمل غير المنجز، وساد تطلع إلى استعادة الأراضي التي كانت تحت حكم الإمبراطورية العثمانية الغابرة.
أردوغان «الوصي»
وأدت هذه القومية الجديدة أيضًا إلى سعي أردوغان لاستخدام حكومته كوصي على الشعوب التركية، ويتجلى ذلك بشكل واضح في دعمه لأذربيجان في التصعيد الأخير في منطقة «ناغورني كارباخ» المتنازع عليها، ولا يستطيع الراديكالي العازم على تدخله نيابة عن باكو أن يتجنب لفت الانتباه، لأنه نشر مجموعة من الإرهابيين السوريين بقيادة قائد سابق في «داعش» لمحاربة ركنهم.
ولا تزال أصداء «سيفر ولوزان» تتردد في جميع أنحاء أروقة السلطة في أنقرة، اعتقادًا منهم أن سقوط الإمبراطورية الغابرة كان بسبب عدم قدرتها على تأمين السيادة البحرية في شرق البحر الأبيض المتوسط، فابتكر الضباط العسكريون في 2006 مفهوم «الوطن الأزرق»، الذي يدعي السيادة على مساحات شاسعة من بحري إيجة والأبيض المتوسط بعد أن كان من بنات أفكار خصومه الأكثر صخبًا، وخصص أردوغان هذه السياسة لنفسه وكان ينفذها بثقة.
حتى أن أردوغان استند إلى «سيفر» في توبيخه لأولئك الذين يتحدون أنشطته في البحر الأبيض المتوسط، قائلًا: بعد أن رفضت معاهدة «سيفر» قبل 100 عام، لن تنحني تركيا أمام ضغط «سيفر» الحديث عليها في شرق البحر المتوسط.
وتراه يخفي نفسه في حالة من الغضب المبتذل، ويواصل محاولة توجيه روح أتاتورك، واصفًا طموحاته التوسعية بأنها تمثّل تحدي مستضعف شجاع في مواجهة المستعمرين الأوروبيين، حد أوهامه.
الاستفزازات التركية
يواصل المحلل بالقول: وصل هذا الخطاب إلى ذروته هذا الأسبوع عندما وصف أردوغان الصحة العقلية للرئيس الفرنسي بأنها موضع تساؤل، ردًا على حملة إيمانويل ماكرون للحفاظ على القيم العلمانية في أعقاب قطع رأس مدرس أظهر رسومًا مسيئة للنبي محمد في صف مدرسي، ورد باريس باستدعاء سفيرها في تركيا.
واشتبك الاثنان عدة مرات في الآونة الأخيرة حيث اتخذ ماكرون موقفًا رافضًا للاستفزازات التركية في شرق البحر الأبيض المتوسط وانتقد بشدة نشر أنقرة للإرهابيين السوريين للقتال في ليبيا، واستدعى سفيره في أنقرة بعد تصريحات تحريضية من أردوغان، الذي رد منذ ذلك الحين بالدعوة إلى مقاطعة جماعية للبضائع الفرنسية، وتولى ماكرون في كثير من ملفات القيادة الغربية ضدّ طموحات صاحب أوهام استعادة الإمبراطورية الغابرة.
وهنا يلفت المحلل إلى أنّ هناك تشكيلة سياسية مسمومة يتم توزيعها وتقديمها في أنقرة، وتشمل مكوّناتها الإسلام السياسي المتشدد، والقومية العرقية التركية، والأحلام الوحدوية باستعادة الأراضي العثمانية، وسيادة الاعتقاد بنظرية المؤامرات الغربية ضد تركيا، والنتيجة الوحيدة المحتملة هي أن التوترات ستستمر في التصاعد، بينما يوجّه أردوغان بلاده بعيدًا عن الديمقراطيات الليبرالية الغربية، ونحو ما يمكن توصيفه بنادي الديمقراطيات المقيّدة بقيادة روسيا والصين.