في المقابل، أحد المسؤولين في إحدى الشركات الذي لم يجد غضاضة في أن يقضي ما يزيد عن اثنتي عشر ساعة يوميا في عمل مجز ماليا ولكنه مضن نفسيا وجسديا متناسيا نفسه وأهله.
العجيب في الأمر أن كليهما سعيد في حياته، لا يرى فيها أدنى غضاضة، بينما نظن نحن للوهلة الأولى أن للأول عملا مملا ورتيبا وسيئا بشكل لا يطاق، بينما الآخر يعيش حياة غير صحية وسيئة، فكلاهما يعاني ويحتاج أن يتوقف قليلا ليراجع نفسه ويسارع في إنقاذ ما تبقى من حياته فهما يعيشان حياة مؤسفة دون شك.
حقيقة الأمر، أننا معشر البشر نميل إلى أن نطبع الناس بتصورنا عن الحياة، ونجد غرابة في من يحيد عن ذلك التصور، وبما اتهمناه بقلة التدبير وسوء الفهم.
يحكى أن سيدة كانت تعيش سعيدة في مستشفى للأمراض العقلية، متخيلة أنها أميرة من أميرات الزمن الجميل، تتهادى بين القصور الفارهة والخدم والخيول الأصيلة وكان طبيبها يتردد في علاجها؛ لئلا تكتشف واقعها فتصدم به وتغلبها الكآبة وتذهب عنها تلك السعادة.
إن اختلاف مواقف الأشخاص ينبع بشكل أساسي من اختلاف نظرتهم للأمور، والتي تشكلت بدورها من عوامل كثيرة، منها وراثية ومنها التجارب التي مروا بها والظروف التي عاشوها.
ولعل ما يزيد الأمر إثارة هو تغير نظرة الشخص نفسه لنفس الأمور مع تغير الزمن. فهو قد يتقبل بسهولة ما كان يراه خطأ جسيما من قبل أو يستحسن ما استقبح تحت ظروف مختلفة.
غير أن هذا التباين والاختلاف في الأفكار والأذواق مع ما يخفي في طياته من تناغم وجماليات، هو ما يعطي للحياة رونقها وبهاءها ويثري تجربة العيش على هذه الأرض بحلوها ومرها.
وتبرز أهمية التنوع والتباين الإيجابي في تجويد صنع القرارات الهامة والمصيرية.
وبالعودة للتاريخ، كان لاختلاف الثقافات ووجهات النظر دور لافتا في صنع القرارات المصيرية والحاسمة، فإليه مثلا يعزى انتصار المسلمين في معركة بدر الكبرى، عندما أشار الصحابي الجليل الحباب بن المنذر -رضي الله عنه- على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بتغيير المنزل الذي نزله لتحقيق أفضلية إستراتيجية وعسكرية، مما ساهم في انتصار المسلمين وبزوغ فجر الإسلام. كما كان لاختلاف الإرث الثقافي والتنوع الحضاري دور حاسم وموفق عندما أشار الصحابي الجليل سلمان الفارسي -رضي الله عنه- بحفر الخندق للدفاع عن المدينة المنورة في القصة المشهورة، وهي حيلة لم تعرفها العرب من قبل.
ومن فوائد الاختلاف الأخرى هو قدرته على تحريك عجلة الاقتصاد، فلولا اختلاف الأذواق لبارت السلع. ويتجاوز مفهوم السوق مجرد البضائع التي يعرضها الباعة بألوان وأشكال وأسعار مختلفة، بل يتعداه إلى سوق الأفكار والآراء والأبحاث والطروحات المختلفة التي قد لا تلقى رواجا لدى أشخاص بعينهم، ولكنها تعتبر مثالا للكمال في رأي آخرين. فالاختلاف والتباين خير لا بد منه.
لا نستطيع أن ننكر أننا لا نرتاح كثيرا لمن يخالفنا الرأي أو الطبيعة، ونود لو أن الجميع شابهنا في قراراتنا وأفكارنا، وربما حتى أشكالنا وملابسنا، إلا أن نظرتنا لهذا الاختلاف وقدرتنا على ترويضه والتفاعل الإيجابي معه هي ما يصنع الفرق عند من يدرك الجمال في روعة ذلك الاختلاف، ويستطيع أن يستخرج أفضل ما لدى البشر لخير البشر، رغم اختلافهم.
tamimmatouk @