حيث هذا الانتقال هو القصة الكبرى لهذه السردية التي راجت وكرسها الموروث الفكري والفلسفي للحداثة باعتبارها سردية خطية تنتهي بزوال الدين وتلاشيه وأنه لا مستقبل له في المجتمعات الغربية الحديثة التي ركزت طاقاتها في أنشطة علمانية عقلانية.
وبالتالي أصبحت هذه السردية الحقيقة التي لا يطالها الخطأ أو النقد في التراث الفلسفي والاجتماعي.
لكن حيوية الفكر الغربي دائما وأبدا تتأتى من الخطابات النقدية التي تفتح لها مسارات متعددة، كلما شعرت أنه وصلت إلى طريق مسدود.
إزاء هذه السردية لم يقف الفكر ما بعد الحداثي مكتوف اليدين، حاول تفكيكها انطلاقا من مرجعيات مختلفة في حقل العلوم الإنسانية المتشعبة، وسأتناول هنا على عجالة اثنين من الفلاسفة الذين اشتهرت خطاباتهم في تفنيد هذه السردية وتفكيكها.
تشارلز تايلور الفيلسوف الكندي هو وريث مدرسة فرانكفورت التي قدمت علم الاجتماع من منظور الماركسية الجديدة، يمتاز فكره بالتشعب والانتماء إلى عدة تخصصات ومدارس فكرية: الفلسفة التحليلية، الفلسفة الظاهراتية، فلسفة التأويل، الفلسفة الأخلاقية، علم الاجتماع والانثروبولوجيا، ترجمة كتبه إلى أكثر من 20 لغة، وحاز على عدة جوائز خصوصا كتابه «منابع الذات» 1989م الذي ترجم إلى العربية بعد أكثر من عشرين سنة على صدوره. يصدر في رؤيته ومواقفه عن إيمان كاثوليكي يرى أن الحياة دون الإيمان بالإله تفتقر للمعنى، ويشكك في النزعة الفردية ويعلي من شأن التوجه الجماعاني دون أن ينتمي لها.
في كتابه الضخم «عصر علماني» الذي تجاوز الألف صفحة، محاولة هدفها تخليص الدين من الآثار المدمرة للعلمانية الحديثة أولا، وثانيا أن يعيد المجتمع الغربي النظر في تاريخه الليبرالي، وفرضيته الأساس تقول: ليس العلم كما تدعي السردية الموروثة هو السبب الرئيس في نزع السحر عن العالم، بل هي ساهمت بطريقة أو بأخرى في فتح الطريق إلى تشكل النزعة الذاتية الإنسانية الحصرية ضمن شروط أخرى أهمها التطور الذي حصل في وعي الذات بذاتها وبمنزلتها في الكون، لا على أنها ذات مفتوحة يسميها (مسامية)، يسهل اختراقها وتهددها أرواح تسكن عالمها وقوى غيبية.
لكن باعتبارها ذاتا (عازلة) كما يسميها، ولأجل أن تكون كذلك تطلب الأمر أيضا تعزيز الثقة في قدراتها الذاتية على التنظيم الأخلاقي.
وفي مسيرة من البحث والتقصي والرجوع إلى النظم الفكرية في العالم القديم كالأفلاطونية والرواقية والإبيقورية والإصلاح الديني كي يعيد تشارلز تركيب القصة من جديد، يصل إلى أن هذه الذات العازلة إذا ما وضعت في سياق النزعة الإنسانية في المجتمعات الغربية فهذا يفترض أن يخلق كل فرد نظامه الأخلاقي تماشيا مع حياته الخاصة، وعلى نحو مختلف عن غيره من الناس، بحيث يعتمد هذا الخلق على قدرتنا على إبداع منظومة من الخير ليس لها صلة بالأخلاق الموروثة من الأديان السماوية، وهذا ما يجعله يتناول الإيمان - كما يؤكد فتحي المسكيني- ليس باعتباره موضوعا تتصارع عليه نظريات متنافسة، بل باعتباره يثير أنماطا مختلفة من التجارب المعيشة متشابكة مع فهمنا لحياتنا بطريقة أو بأخرى. بالنتيجة لم يختف الدين بل تغير شكل الإيمان به من منظور ضرورة الامتلاء الروحي.
يبقى الفيلسوف الآخر هانس يواس في مقال آخر.
[email protected]