قد يبدو هذا العنوان «ثقافة الجائحة» غريبًا بعض الشيء، ولكن مَنْ يتمعن قليلاً، فقد يجد أنه عنوان مناسب في مثل هذه الأحداث، التي تواجهها الأمم والشعوب، خاصةً حين يطول زمن بقائها كما هو حاصل في هذه الجائحة، التي أتمت عاماً من عمرها منذ أن بدأت قبل عام من الآن. وإذا كانت مثل هذه الأحداث تؤثر أول ما تؤثر في أمن الأشخاص والأوطان وفي الاقتصاد والسياسة والصحة والتعليم والأحوال المعيشية للناس، فإنها أيضًا لابد أن تترك أثراً في ثقافة البشر، بل إن كثيراً من العادات والأفكار والممارسات لابد أن تفرض تغيراً ثقافياً في أذهان الناس وفي عاداتهم بعضه ضروري حتمي لمواجهة الأخطار التي تواجههم، وبعضها ينشأ بطريقة غير مباشرة بحيث إن بقية العادات والممارسات والأفكار لا بد أن تتغير نتيجة ما يصاحب هذه الأحداث من ظروف، وكلما كانت هذه الممارسات والأفكار ذات علاقة بنوع الجائحة أو الخطر كانت أكثر تأثراً به، وفي حالتنا هذه مع كورونا، فالجانب الصحي هو الأكثر تأثراً، فقد فرضت الجائحة ممارسات عديدة اقتضاها سعي الدول للحد من آثار هذه الجائحة والمحافظة على سلامة الناس من خطرها، فكان لابد من استخدام الكمامة والمعقم والحد من التجمعات والتباعد الاجتماعي بكل صوره وما رافق ذلك من إجراءات رسمية لجأت لها الدول وصلت أحيانًا منع التجول الشامل أو الجزئي سعيًا منها للتقليل من انتشار الفيروس، إضافة إلى تعطيل الإدارات الرسمية والشركات وحتى الجامعات والمدارس، ولقد كانت الإجراءات في البداية مؤقتة على أمل أن تكون لفترة قصيرة ثم تعود الأمور إلى طبيعتها، وعندما لوحظ أن ذلك سيأخذ وقتا طويلا بدأ البحث عن حلول تحافظ على حياة الناس وعن الاشتراطات الصحية لمواجهة الجائحة ومكافحة آثارها وفي نفس الوقت مواصلة الناس حياتهم اليومية والمعيشية، التي يترك تعطيلها لمدة طويلة آثاراً خطيرة على الصعيد الاقتصادي، خاصةً بسبب تعطل الآلاف من الموظفين والعاملين عن أعمالهم وفقدهم مصادر رزقهم، ومع ذلك فإن هناك سلوكيات إيجابية أيضًا فرضت نفسها في فترة الجائحة ينبغي المحافظة عليها حتى مع زوال الجائحة -إن شاء الله- ومنها المحافظة على النظافة الشخصية وعدم التلامس المباشر أثناء التحية والسلام أو في الحفلات والمناسبات والزواج والعزاء وغيرها، ولعل اضطرار الناس إلى تقنين المصروفات أثناء الأزمة يكون له أثره الإيجابي أيضًا في تنظيم الإنفاق واقتصاره على الضروريات وعدم المبالغة، التي تؤدي إلى الهدر والخسارة، ومن أجمل العادات والممارسات، التي رافقت الجائحة والتي نرغب جميعًا المحافظة عليها هذه الروح الأخوية العالية من التكاتف والتعاون والبذل والعطاء، الذي شهدته حملات المعونة الاجتماعية، التي نظمها القطاع الثالث بتوجيه من القيادة في بلادنا، إضافة إلى روح التفاني في الأداء، التي أظهرها العاملون في القطاع الصحي والقطاعات الأمنية والتعليمية ومنظمات القطاع الثالث، التي كان زمن الجائحة فرصة أثبت فيها هؤلاء صدق انتمائهم وإخلاصهم، وفي مجال التعليم فقد شكلت الجائحة تحدياً كبيراً اقتضى التحول السريع للتعليم الإلكتروني، الذي كان البديل الوحيد الممكن الذي يستطيع أبناؤنا من خلاله مواصلة تعلمهم وتجنب خسارة سنة أو أكثر من أعمارهم.. صحيح أن التوجه إلى التعليم الإلكتروني كان توجهاً موجوداً قبل الأزمة محليًا وعالميًا، وأن التعليم أصلاً حتى في الأحوال العادية يتجه للتحول لهذا المنحى لكن الجائحة جعلته حاجة ملحة وسريعة، بل تحدياً ينبغي مواجهته في أسرع وقت ممكن، ومع أن الاستجابة لهذا التحدي تقتضي متطلبات كثيرة، حيث لا بد من توافر الأجهزة الإلكترونية للطلاب والطالبات وتوافر الشبكة العنكبوتية اللازمة ثم توافر المهارات لدى المعلمين للتعامل مع التقنيات، التي سيتم توظيفها في هذا النوع من التعلم بما في ذلك إعطاء الدروس وإجراء عمليات التقييم والتواصل المستمر مع الطلبة والطالبات في جو تفاعلي قدر الإمكان، وهي لم تكن تحديات بسيطة، ولكن المبهج أن مدارسنا وجامعاتنا استطاعت إلى حد كبير مواجهة التحدي ساعدها في ذلك بعد عون الله رعاية الدولة -أيدها الله-، وحرصها على تهيئة كل السبل الممكنة وتخصيص الميزانيات واتخاذ الإجراءات والقرارات وتوفير المنصات الإلكترونية وكل الاحتياجات الأخرى، ثم مشاركة بعض المحسنين من المواطنين والقطاع الخاص والقطاع الثالث في توفير الأجهزة الحاسوبية واللوحية لأبناء الأسر المحتاجة من الطلبة والطالبات حتى يستطيعوا مواصلة التعلم أسوةً بزملائهم الآخرين، وهناك إيجابيات أخرى يضيق المجال لعدها وكما قالوا «رب ضارة نافعة»، ولعل درس الجائحة يكون مفيداً.
Fahad_otaish@