صوت الهاتف وهو يرن عدة مرات وليس له مجيب! أثار استغرابي لأني أعرف تماما أنها لا تغادر مكتبها إلا نادرا، فعرفت أنها لا ترغب بمحادثتي، جاءت ببالي فكرة أن أتصل بها من رقم مختلف، وعندما سمعت صوتي أجابتني بلهجتها اللطيفة (نعم !عايزة إيه)، لم أستطع منع نفسي من الضحك على نبرتها الحادة وعتابها الواضح المغلف بالغضب، فرددت عليها بنفس لهجتها في محاولة مني لاستعطاف قلبها (عايزة اسلم عليك أصلك وحشتيني): واضح واضح، أجابتني، وحتى لا يطول النقاش على هذه الوتيرة سألتها: متى وقتك يسمح بزيارة حضرتنا، فأجابتني (مش لما حضرتكم تفضى بالأول !) وانتهت المكالمة على غير رضا..
إن مكانتك الكبيرة يا صديقتي تجعلني أبسط لك جناح الود دائما، أدرك تماما أن عتابك ما هو إلا افتقاد الصديق لصديقه الذي لم يعتد منه بعدا غير مبرر، حسنا: أنت لا تستحقين الحزن وأنت في كنف محبتي، قد جاورتِ النفس وحق الجار الإحسان، قررت مفاجأتها في عقر دارها، وحين فتحت الباب ورأتني ابتسمت ابتسامة صفراء، لكنني أعلم أنها سعيدة برؤيتي وسعيدة أكثر بزيارتي لها، فقلت لها بلهجتها (أنا ماقدرش على زعلك)، تغيرت نظرتها إلى نظرة المزهو بنفسه وهو راض، توليت زمام الحديث: لم يمنعني عن مواصلتك والسؤال عنك سوى انشغالي تلك الأشهر والذي كنت أستطيع أن أسرق لك منها دقائق لأطمئن عليك ولكنني لم أفعل، فاعذري ما بدا لك من جفاء تجاه صحبتك، قالت لي وقد انفرجت أسارير وجهها الطيب: (إنت الكبيرة برضه وأنا باعتبرك مش صديقة بس! إنت أختي وزميلتي وعزيزة عندي قوي ولولا كلامك الحلو دا ماكنتش حسامحك).. فطرأ بيت شعر جميل يصف هجر الأحبة عتابا لهم حيث يقول الشاعر:
وأهجركم هجر البغيض وحبكم.. على كبدي منه شؤون صوادع !
إن التواصل المريح والتقارب الروحي متى ما وجد بين الأشخاص، أصبح عادة لا غنى عنها وأمسى فقدها من دواعي ضنى القلوب وإثارة تساؤلاتها، خاصة أن بعض الرفقة فيها من الخير والسلوى الشيء الكثير وقدرتك على مكاشفتهم بأحاديث قد لا تتمكن من تبادلها مع شخص قريب أو فرد من عائلتك تزيدهم قيمة. نحن غالبا نخشى على عائلاتنا من تحمل همومنا والقلق علينا، نريدهم أن يرونا أقوياء قادرين على التغلب على مصاعب الحياة وجلب البهجة لهم.
احرص على أدب الصحبة متى ما وجدتها، تكن من أربابها، تحرَّ الوصل والبشاشة وأظهر الود ما أظهروه، فإن منعوه صدودا فاطوهم طي السجل للكتب، تغافل وكن برا ناصحا حافظا للعهود وعادلا منصفا قليل الخلاف، إلا في معاتبة محمودة يرجى حسن العهد بعدها، ولا تغامر بخسارة لا تجد عوضا عنها.
ولا أرى تصويرا أعمق وأعذب من قول الشاعر واصفا تأثير اختلاف المودة وتغيرها عما كانت عليه، عاهدتني أن لا تميل عن الهوى.. وحلفت لي يا غصن أن لا تنثني
هب النسيم ومال غصن مثله.. أين الزمان وأين ما عاهدتني
واصلتني حتى ملكت حشاشتي.. ورجعت من بعد الوصال هجرتني
الحقيقة أن الحياة قائمة بحد ذاتها ولا تقف عند أحد بعينه، لكن أن تمشي محفوفا ببهجة الصحبة والأحبة أجمل بكثير من أن تقطع الطريق وحدك.
Nadia_Al_Otaibi@