بينما تجد أن هناك نفرا من الناس يعيشون بيننا، لا يتأثرون بالمواقف السابقة، هم متجردون وغير متحيزين، أحكامهم بالغة الدقة إلى أبعد الحدود، هم في الحقيقة يمثلون قلة قليلة من أفراد المجتمع في وقتنا الحاضر، يفرقون بين الخلاف والاختلاف، ولا يبنون على إثر ذلك مواقف شخصية مع المخالفين.
أولئك هم المنصفون من الناس، هم نماذج وقدوات مثالية وحية في مجتمعاتنا، نأمل دائماً أن تكون هي السمة البارزة في المجتمع، أو المؤثرة فيه على أقل تقدير، فأفعالهم وأخلاقهم، نماذج تُدرس وتسهم في إضفاء صفة الإيجابية على كل أفراد المجتمع.
والإنصاف هو ذلك الجزء المهم من خلق العدل، وهو لغة التعبير، التي يجيد المنصفون التحدث والتحلي بها، وهو الخلق الذي يتصف به أناس، وتضيق عنه صدور آخرين.
والمنصفون هم أولئك الفضلاء من الناس، الذين لا تغيرهم الظروف ولا تؤثر فيهم المواقف، معادنهم كالذهب لا تصدأ ولا تتغير مع تقدم الوقت أو مرور الزمن، بل إنك تجد أنهم منصفون حتى مع الأعداء أو الخصوم، لا يفجرون حتى في الخصومة، يمتثلون بتحذير النبي -عليه الصلاة والسلام- من ذلك، فقد بيَّن أن من أخلاق المنافق الفجور في الخصومة، حيث قال: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا عاهد أخلف، وإذا خاصم فجر".
ومن نماذج المنصفين الرائعة، أنك تجد مجموعة من الموظفين يصفون رئيسهم بأنه متسلط، فيدافع عنه أحدهم ويقول وبالرغم مما تقولون عنه فهو رجل منصف لا يظلم أحداً، وذلك المدير الذي يشتكي من تأخر أحد الموظفين عن الحضور إلى عمله، فيدافع عنه رئيسه المباشر ويقول: ولكنه يفوق زملاءه في سرعة الإنجاز، وفي تنفيذ أعمال لا يستطيع المنضبطون القيام بها، وتلك الزوجة، التي تصف زوجها بإهمالها أحيانًا، ولكنها تقر بأنه كريم ولا يقصر عليها بشيء، وزوج يشتكي من كثرة تذمر وشكوى زوجته إلا أنه يثني على احترامها وتقديرها له، وأبوان يشعران بتقصير أبنائهما تجاههما ولكنهما لا ينتقدانهم علناً أمام الآخرين، ولا يقللان من شأنهم، وأبناء قد يعانون من قسوة أبويهما ولكنهم يعترفون بعظم حب والديهما لهم.
تلك النماذج من أفراد المجتمع لا يعيشون في المدينة الفاضلة، بل هم نماذج حية نقابلها كل يوم في حياتنا، ونتعايش معها، ونقدرها ونحترمها ونقتدي بها، يقول الله عز وجل بكتابه الكريم في سورة النساء" (۞ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ۚ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا ۖ فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُوا ۚ وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا).
ومن وصايا النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي ذرٍّ:
«..وأمرني أن أقول الحقَّ وإن كان مرَّاً».
بل وإنك لتعجب من أن هناك نفرا من المنصفين قد وصل بهم الإنصاف إلى درجة تكاد تجزم بأنها مستحيلة، فهم يتغاضون عن كل أنواع الإساءة، وتأبى قلوبهم أن تحملها، وتعتذر ألسنتهم عن النطق بها، ولا تكاد ترى أو تسمع منهم عيباً أو انتقاصاً لأحد، وهم كما نقول عنهم بالعامية (لا تخرج منهم العيبة)، فيا لهم من عظماء نادرين ويا لهم من قدوات مثالية تعيش بيننا وتسطر لنا أروع أنواع الممارسات الإيجابية.
قال علي بن الجهم:
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها
كفى المرء نبلا أن تعد معايبه
@azmani21