مع أن الأرقام كانت دائما هي اللغة التي تتحدث بها الميزانية إلا أن هذه اللغة تكتسب هذا العام أهمية إضافية لأنه بكل العبارات واللغات لم يكن عاما عاديا في هذه البلاد ولا في غيرها من دول العالم، فقد شهد العالم خلاله الجائحة التي اجتاحت الكرة الأرضية من أقصاها إلى أقصاها ولم تسلم منها دولة من الدول مهما عظمت ولا شعب من الشعوب، وهو ما أكده خادم الحرمين الشريفين بقوله -يحفظه الله- في في كلمته التي ألقاها في الجلسة التي عقدها مجلس الوزراء لإقرار الميزانية: «إن المملكة تأثرت سلبا على مستوى نشاط الاقتصاد المحلي بجائحة كورونا إلى جانب تأثرها سلبا بالركود الاقتصادي العالمي وانخفاض الطلب في أسواق النفط ما أدى إلى انخفاض حاد في الأسعار، وإن المملكة جزء من العالم تؤثر في الأحداث والظروف العالمية وتتأثر بها ولم تكن بمعزل عن آثار الأزمة في جانبي المالية العامة والاقتصاد».. وأضاف -يحفظه الله- قائلا: «إن هذا العام كان صعبا في تاريخ العالم، وقد أدت التدابير الصحية والمبادرات المالية والاقتصادية التي اتخذناها والإصلاحات التي أتت مع إقرار رؤية المملكة (2030) إلى الحد من الآثار السلبية على المواطنين والمقيمين في المملكة وعلى اقتصادنا»، ومما يؤكد أهمية أقوال خادم الحرمين الشريفين أن الجائحة لم تقتصر آثارها على الناحية الصحية وتهديد حياة الأفراد فقد هددت أيضا أمنهم المعيشي والاجتماعي من خلال آثارها السلبية في المجالات الاقتصادية بشكل الخاص مما انعكس معاناة كبيرة في كثير من الدول لم تنج منها نسبيا إلا القليل من البلدان التي استطاعت أن تواجه هذه الحالة ليس بالإجراءات الصحية والاحترازية فقط، بل أيضا بالقرارات الاقتصادية الشاملة التي حدت قدر الإمكان من آثار الجائحة على المواطنين والمحافظة على استمرار الحياة اليومية ليس في المجالات الاقتصادية فقط بل وفي مؤسسات التعليم والصحة والخدمات البلدية والاجتماعية أيضا وغيرها من المؤسسات والمجالات الحيوية الضرورية، وقد كانت والحمد لله بلادنا في مقدمة هذه البلدان التي استطاعت بتوفيق من الله أن تحد من آثار الجائحة في كافة المجالات حتى مع ما رافقها من انخفاض العائدات من إنتاج النفط بسبب تراجع الطلب وبسبب الإغلاقات والتوقف الجزئي لعجلة الحياة اليومية في أكثر الدول ورغم النفقات الطارئة الهائلة التي اقتضتها إجراءات مواجهة الوباء، ويظهر ذلك بوضوح في الانخفاض المستمر في حالات الإصابة النشطة والوفيات والتزايد المستمر أيضا في حالات الشفاء من هذا المرض وهي نتائج جاءت تتويجا لجهود الدولة التي حشدت كافة الإمكانيات المادية والبشرية لمواجهة الجائحة والتي كان من نتائجها أيضا وصول الشحنة الأولى من التطعيم المضاد لهذا المرض قبل أيام قليلة حيث كانت المملكة بذلك من أوائل الدول التي استطاعت أن تحصل على هذا التطعيم مما سيكون سببا في التقليل من آثاره والتخلص منها -بإذن الله-. ورغم كل هذه الجهود والتبعات والمسؤوليات فقد كانت ميزانية الدولة التي أعلنت يوم الثلاثاء الماضي فوق كل التوقعات في مثل هذه الظروف سواء من حيث النفقات، خاصة في مجالات التعليم والصحة والتنمية الاجتماعية والخدمات العامة أو خفض العجز المتوقع إلى 141 مليار ريال والتي ستتم تغطيتها بالسحب من الاحتياطي العام للدولة، فيما بلغت النفقات التقديرية 990 مليار ريال والإيرادات 849 مليار ريال، أي بعجز متوقع بحدود 141 مليار ريال وهو أقل من العجز في ميزانية العام الذي سبقه 2020 التي بلغت 298 مليار ريال، والذي بلغ فيه إجمالي النفقات المتوقعة 1068 مليار ريال وإجمالي الإيرادات 770 مليار ريال، ومن المنتظر أن يعزز هذا الانخفاض في العجز وما يرافقه من إجراءات ضبط النفقات استمرار عجلة الحياة الاقتصادية على أفضل وجه ممكن في مثل هذه الظروف والحمد لله، ويعزز ذلك أيضا ما أعلنه سمو ولي العهد عن عزم صندوق الاستثمارات العامة ضخ مليارات الريالات في سوق الإنتاج وتوقعات المختصين بقدرة هذا السوق على توليد عشرات الآلاف من فرص العمل للمواطنين وتخفيض نسبة البطالة، وكذلك تقديم الدولة المزيد من الإعفاءات والتسهيلات للمؤسسات الاقتصادية والصناعية والإنتاجية، واستمرار تنفيذ برامج الدعم المالي لرواتب العاملين السعوديين في مؤسسات وشركات القطاع الخاص مثل برنامج ساند وغيره من برامج الدعم المباشر وغير المباشر لهؤلاء العاملين، والاستمرار في تنفيذ المشاريع الإستراتيجية الكبرى إضافة إلى التوجهات الإيجابية في أسواق النفط ودور المملكة في توجيه سياسات أوبك وأوبك بلاس نحو تنظيم سوق الإنتاج والتأثير الإيجابي على الأسعار من خلال تخفيض الإنتاج بالتوافق مع هذه الدول، علاوة على الاستمرار في الإجراءات الكفيلة بتحقيق رؤية ولي العهد بزيادة الإيرادات غير النفطية للميزانية والتي ظهرت آثارها واضحة في أرقام الميزانية هذا العام، وستكون أكثر وضوحا في السنوات القادمة -بإذن الله-.
Fahad_otaish@