كم هو جميل زرع تلك المهارة المحفوفة بالثقة غير المتكلفة، وكم هو رائع تحول عمليات التعليم إلى تعلم، لتكون صناعة المتعلمين والمبدعين ناتجًا علميًا وواقعًا عمليًا.
ولعل من الإنصاف القول إن تلك القيم والمهارات ليست غريبة علينا، فنحن نؤمن بها، وندرب عليها، ونحاربها أحيانا، إذ ليس من الضرورة أن يعمل الإنسان بكل ما يؤمن به، ولسنا بحاجة لأن نبني كما كانت الأولى تبنى.. ولا أن نصنع فوق ما صنعوا! ما دام فينا من لا يزال يحاول اختراع العجلة، بتجارب متتابعة توأد قبل أن تولد، وتقر بمصنع «المصلحة التعليمية» التي لا يراها إلا «متخذ القرار»، لتكون بذلك صالحة ونافعة ونافذة، وما على الميدان إلا أن يترقب وينفذ ما ينزل عليه إنزالا مظليًا وإن كان على يقين بأن ذلك سيكون أثرا بعد عين صاحبه، بمجرد أن يرحل.
وفي كل حقبة تشرئب الرقاب لما يستجد من مفاجآت، ولا يهمنا من ذلك تغيير الشعارات، أو هيكلة الإدارات، التي ترعب المعنيين فقط، إنما يهمنا بالدرجة الأولى ما يمس ثروة الأجيال الأكثر خطورة وإشكالية؛ فهم فلذات أكبادنا، ونهضة حاضرنا، وقادة مستقبلنا، وأولى أولويات رؤيتنا.
إن تتابع حقول التجارب التي لا تنتهي، بحاجة لتأمل، وقراءة علمية ودراسة فاحصة لجذورها الممتدة لعقود مضت؛ فمن المدارس الرائدة البائدة للمعلم الأول الذي لم يمكن، والتقويم المستمر الذي وجد فجأة بلا تأهيل للمعلم أو المتعلم، وإن كان من الإنصاف القول إنه قد تم التدريب عليه "بعد التنفيذ"، ليكون لذلك الفضل في خلق صعوبات التعلم والفقد الكبير لأهم المهارات الأساسية.
ولم تقف المفاجآت عند ذلك، فعلى مستوى اللغة -مثلا- حتى الترتيب الهجائي لم يسلم من محاولة إعادة اختراعه، فضلا عن انهيار مهارات الخط والإملاء والتعبير، لتكون ثالثة الأثافي.
أما البرامج الإدارية والتعليمية فالمجال فيها أعظم وأهول، فبرنامج تطوير -مثلا- الذي تعلقت عليه الآمال والأحلام، نزل بداية ليكون مقتصرًا على التعلم إلكترونيا، فجهزت مدارس محددة ليكون لكل طالب جهاز مستقل، وبكل فصل تجهيزات بأحدث التقنيات، ليتحمس المسؤول حينها فيقرر فصل المدارس عن إدارتها، لتكون المتابعة عن بعد بمشرفين يفدون إليها من العاصمة، متى ما ناسب ذلك ظروفهم، لتواجه تلك المدارس مصير العجز عن تحقيق احتياجاتها الأساسية وتضيع الأهداف التعليمية بين أجهزتها، ليعاد النظر بعد سنوات من التجربة والخطأ، وتعقد الجلسات العلمية ويستقطب الخبراء من جميع أنحاء العالم، بتجارب فنلندية وكندية وفرنسية وأسترالية وسنغافورية وغيرها، وترسل بذلك البعثات تترا، وتعقد المؤتمرات هدرا، ليبنى البرنامج باحترافية أكبر واقتدار أفضل ودراسات عالمية محكمة، حتى إذا ما طار وقع! ليكون عالة من بعد الاحتراف والهالة، وكأننا نيسر في متاهة، وما النظام الثانوي -مثلا- إلا شاهد عمن لا يزال يبحث عن ضالته ليتقلب من النظام العام إلى المقررات إلى الفصلي لتفوز به أخيرا المقررات.
أما برنامج «خبرات» فجرح غائر، وإحباط هائل، ومن رفع منهم شكايته، اتهم في غايته، ودونكم من شئتم منهم فاسألوه.
وعلى صعيد النظم فلك أن تتأمل اختراع المنظومة ومؤشرات أدائها، لتجد الجواب من الميدان يكفيك عنها، وقس عليها بوابة المستقبل، وكأن الأمر موج يردم بعضه بعضًا، لتعارضه مع واقع تارة أو لمخالفته لنظام تارة أخرى، أو لمدافعة من لم يؤمن به أو يعيه، أو تبين له -متأخرًا- عدم جدواه فيلغيه، وما زلت أتذكر رد أحد المسؤولين على قيادات التعليم بالمملكة في محفل كبير، لما نوقش عن أحد قراراته التعليمية المربكة، فاستشهد بأن «رمي الطفل في المسبح عند الغرب يجعله مضطرا للنجاة!».
مؤلم أن نعود بالذكريات لكل ما سبق، غير أن من جميل الفأل- وهو ما دعاني لهذا الطرح- ما نراه مؤخرا من تصحيحات جادة ومواقف معززة لمواطن النجاح ومكامن الخلل، ومتضافرة مع لغة الأرقام ومقاييس الاختبارات العالمية ومؤشرات الأداء الداخلية، في خطوات أكثر من أن تحصر بمقال، تعمل نحو التحول من عمليات الإنقاذ لما فات إلى مرحلة الانطلاق بثبات وتوافق مع رؤية الوطن.
ولا شك أن الاجتهادات هي نواة النجاحات، والمحاولات لا تعد هدرًا للطاقات والثروات، إن صنعت بعلمية محكَّمة يقوم عليها علماء وخبراء يؤمنون بأهمية التعلم من جهة وبخطورة المغامرة بالأجيال من جهة أخرى، وفق خطة عمل واضحة، ومؤشرات أداء معلنة، وبنظام مؤسسي متكامل لا يزلزله مسؤول ولا يعبث به ملول، فتكون بذلك أقرب ما تكون للواقع وأبعد كل البعد عن الارتجالية، أو النزعة الفردية وإن كانت بصدق نية، محاطة بمتابعة دقيقة ومستمرة من جهات موثوقة مستقلة، غير مثبطة ولا متصيدة، تهدف للتعزيز والتحفيز، لضمان صحة اتجاه البوصلة.
@nayefcom