الذكاء الاصطناعي.. البيانات الضخمة.. إنترنت الأشياء.. المدن الذكية.. الهندسة الحيوية.. الحوسبة السحابية.. الطباعة ثلاثية الأبعاد.. التكنولوجيا المالية.. هي عناوين المستقبل القادم ونتاج عصر الثورة الصناعية الرابعة. ومن المؤكد أن هذه المصطلحات والمفاهيم قد ترددت على الكثيرين.. إلا أن الغموض الذي يحيط بها أضفى حولها عددا من المخاوف، دعم الكثير منها آراء علماء متشائمين من التطور التكنولوجي على البشرية ومن بينهم العالم البريطاني الراحل، ستيفن هوكينغ، حيث يعتقد بأن الروبوتات يمكنها أن تطور إرادة خاصة بها من الممكن أن تتعارض مع مصالحنا.. وأنه لا يوجد فرق كبير بين ما يمكن تحقيقه عن طريق العقل البيولوجي وما يمكن تحقيقه عبر جهاز كمبيوتر. وفي الطرف الآخر هناك من هو مولع بها ويرى فيها الحل الذي لا يقهر لكل مشاكل البشرية، وأننا سنصل إلى مرحلة «تفرد وتحكم تكنولوجي» في قيادة العالم باستقلالية كلية عن البشر، ومنهم عالم الرياضيات جون فون نيومان الذي يؤمن بفكرة «التفرد الأساسي» القائلة بأن التقنيات ستصبح قادرة على إنتاج غيرها من التقنيات المختلفة بشكل مستقل عن البشر. ومن بين هؤلاء الفريقين نريد الغوص في أعماق فهم هذه المصطلحات للوصول لفهم أوسع وأكثر وسطية لما نعيش من تقدم تقني.
فالتقنية يمكن تعريفها بأنها التطبيق العملي للعلم أو بعبارة أخرى هي النشاط الذي يُترجم من خلاله العلم على أرض الواقع. ووجود التقنية مرتبط بوجود البشر فهي موجودة مع أول مطرقة أو سهم صنعه الإنسان في العصر الحجري. وكانت التقنية في الغالب محصورة في العالم الفيزيائي أو الطبيعي (الأشياء الملموسة المحسوسة المساعدة للبشر في حياتهم مثل القوس والرمح وغيرها) ومع دخول عصر الثورة الصناعية الثالثة دخل الكمبيوتر ومعه ابتدأ العالم الرقمي (الديجيتال) في التواجد جنبا إلى جنب مع العالم الفيزيائي في الاختراعات والتقنيات التي ينتجها البشر. يضاف لكل هذا العالم الحيوي (البايولوجي) وهو عالم الكائنات الحية (بشرية كانت أم حيوانية أم نباتية) ومنتجاتها من زراعة ولحوم وعلاجات لأمراض ومضادات حيوية. أما التقدم التقني الذي نعيشه اليوم (الثورة الصناعية الرابعة) فما هو إلا حصيلة لانصهار الحواجز بين هذه العوالم الثلاثة وتكاملها في التقنية الواحدة. فتجد التقنية التي تستخدم الكائنات الحية أو منتجاتها لإنتاج أو تعديل مختلف المواد لخدمة الإنسان ويتحكم فيها جهاز كمبيوتر يتخذ قرارات قد يصعب على البشر القيام بها. ومن هذا المنطلق يتبين لك عزيزي القارئ صعوبة حصر أي تقنية حديثة في تخصص معين أو تحت مظلة علمية كلاسيكية واحدة فيزيائية أو رقمية أو حيوية كانت. ومن هنا نشأت المعضلة للفريق الأول (المتشائمين technophobes). فالعالم المتخصص يوصف بأنه عميق المعرفة في فرع معرفي واحد لكن معرفته سطحية وتكاد تصل حدّ الجهل بالمعارف الأخرى. وبالتالي فهو لا يستطيع الإحاطة بحيثيات التقدم التكنولوجي -الذي هو حصيلة لدمج الكثير من المعارف والعلوم- وينتج لديه الكثير من التخوف والترقب فالإنسان عدو ما يجهل.. في حين أن ما يخافه ليس إلا تطبيق لتكامل الأبحاث العلمية الذي هو جزء من تقدمها.
وكما أسلفنا سابقاً بارتباط التقنية الوثيق بالعلم -وإن كان غير واضحا لشمول التقنية الواحدة للكثير من العلوم بشكل يبهر وتضيع معه هذه الرابطة- فلابد أن يجيء تصميمها على مقتضى القوانين الموضوعية (أو السنن الإلهية بتعبير القرآن) التي تضبط حركة الكون وتطوره والعلاقات بين أجزائه، لكي تكون صحيحة. فلم يحدث التقدم التكنولوجي إلا عن طريق المعرفة بهذه السنن الكونية، وكلما زادت معرفة العلم بهذه السنن وتعامل معها بوعي تقدم أكثر في الاستفادة منها وسخرها لصالح البشرية. فالعلم والتكنولوجيا قد تعاظما إلى درجه أصبحا معها أهم قوه إنتاجية، و المسيطرة علي جميع مجالات الحياة، إلا أن هذه القوة لم تأت فجأة أو نزولاً بلا مقدمات، بل أتت عن طريق تراكم معارف وتقنيات مبنية على بعضها، فالمنجزات التقنية القديمة تمهد لظهور الجديدة بشكل تراكمي وسلس متناسب مع طبيعة العالم الذي نعيشه. وكل ما تحقق كان بجهود البشر ومازال بإدارتهم فمازالت التقنيات وستظل تحتاج البشر -حتى وإن تفوق أداؤها على أدائه في بعض المهام- فهي خادمة له ومن وسائل تحقيق رفاهيته ومازال التفوق الشمولي للبشر في العديد من المهام بشكل متزامن وفي مجالات مختلفة في حين تعجز الآلات عن مجاراته في التنوع المهاري والذكاء المتعدد والواسع. فمن غير المعقول للعارف بهذه الحقائق أن يؤمن بما يقوله الفريق الثاني (المولعين بالتقنية technophiles) من إننا سنصل الى مرحلة تتفرد التكنولوجيا بالعالم وتتحكم به وتسيطر عليه بشكل خارج عن الإطار العلمي وبعيدًا كل البعد عن الحدود المقبولة.
سيستمر التقدم التقني في حل المعضلات التي تواجه البشر وسيكون أداة في يد الإنسان يسخر بها الطبيعة للاستفادة منها وتكييفها لتناسبه وتخدم رفاهيته.. سنرى أعدادا مهولة من التقنيات التي ستذهلنا بشكل يجعلنا نترنح بين فريقي technophiles وtechnophobes لكن لعل معرفتنا بما سبق أعلاه تجعلنا ننظر بوسطية معتدلة لهذا التقدم، فنستغله بصورة عادلة ليست متفائلة أكثر من اللازم ولا متشائمة بصورة تجعلنا نعيش قلقا وترقبا من أهم أدواتنا المعيشية في العصر الحديث.
@dokhyl