وكل فرد منا فيما أزعم لا بد أن يكون له نصيب منها، إما يوميا لبعض الوقت أو لساعات أسبوعيا أو لبضعة أيام شهريا. فهي ضرورة لشحن النفس، والبعد عن زخم الحياة المتسارع وسحر التكنولوجيا الفتان، الذي تسلل إلى القلوب والعقول معا، فلم يستطع الإنسان الافتكاك منها.
أدوات التكنولوجيا السحرية أصبحت تشاركنا جل تفاصيل حياتنا، وها هي تطبيقات الجوال المذهلة تحاصرنا، فلم تعد هناك الفرصة للإنسان أن يفكر ويستنتج لأن (التطبيق) سيقوم بذلك عنك! والقادم أكثر تحكما وسيطرة مع الحلم الكبير للذكاء الصناعي وإنترنت الأشياء، صحيح أن هذه الوسائل تخدم الإنسان، وتقدم مساعدات متنوعة في مجالات متعددة، ولكن على حساب جوانب أخرى من الحياة، هي تسرق اللمسات والمعاني الإنسانية، ومتعة المحاولة والتجربة والخطأ.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن الحياة بمتطلباتها ورتمها السريع تسرق منا أيضا لحظات الصمت والتأمل. فكل شيء صار يجري من حولنا بسرعة، فهناك حمى الوجبات السريعة، والأخبار العاجلة، والتوصيل السريع، وفقدنا في خضم ذلك جزءا من متعة الانتظار والهدوء والترقب، فكل شيء من حولنا أصبح يعدو عدوا.
ولحظات العزلة، التي تحدثت عنها في بداية المقال هي مهمة لنا لتخرجنا من هذه الدوامة، ولتعيدنا إلى طبيعتنا. ولا تحسبن الخلوة والعزلة تنحصر في مكان معين، فقد يكون مكانك المفضل وسط الغابة أو في عمق الصحراء أو على ضفاف النهر أو عند أطراف القرية أو على قمة جبل، المهم البعد عن صخب الحياة والتكنولوجيا بين الفينة والفينة كجزء من أولوياتك الضرورية والمنتظمة. قال الأديب الشهير الروسي تولستوي حين جفا إلى الغابة: «واحدة من أول شروط السعادة هي أن العلاقة بين الرجل والطبيعة يجب ألا تُكسر».
ومن ناحية فلسفية، فقد اعتزل (سدهارتا جوتاما) حياة الترف إلى التقشف والزهد، وانزوى عن أعين الناس، فاخرج تعاليم جديدة تسمى (البوذية)، وبوذا تعني المستنير. وهي فلسفة حياة أقرب منها أن تكون ديانة، حيث تدعو إلى التصوف والسلام وحب الخير. وهام الإمام أبو حامد الغزالي بعيدا عن بغداد معتزلا الشهرة والأضواء لمدة عشر سنوات في رحلة مضنية ومتقشفة من أجل سمو الذات وملامسة صفاء الروح. وكان القس بن ساعدة يخلو إلى الصحراء وحيدا باحثا ومتأملا ومتمسكا بالديانة الحنيفية. وحين نستشهد بهذه الأمثلة، فالمقصد هو العزلة القصيرة المنظمة كما فصلنا آنفا، لا الانعزال عن الناس والحياة.
ودعني أؤكد لك مرة أخرى أن الخلوة والعزلة المؤقتة والمجدولة بانتظام ليست مضيعة للوقت، وليست للمتعة فقط، بل هي ملهمة لحياتك العلمية والعملية، وهي جزء من الحياة ذاتها. وأسأل نفسك لماذا كان حبيبنا عليه الصلاة والسلام يعتزل الناس في فترات متباينة قبل النبوة (إرهاصات النبوة)؟! إنه كان يبحث ويستعد للدور الرئيسي والعظيم، الذي سيقوم به لهداية البشرية. ولكل منا دوره، وكل ميسر لما خلق له، فابحث عن نفسك في عزلتك، وستعرف دورك المهم في الحياة، فلا تستهن به ولا تستصغره!
abdullaghannam@