مع تحسن الوضع الصحي محليًا وعالميًا بشكل نسبي بدأت التساؤلات تطرح نفسها سواء على أصحاب القرار أو على أولياء الأمور بشأن مستقبل التعليم بعد الجائحة، ويكاد الجميع يتفقون أن التعليم عن بعد الذي لجأت إليه الدول تحت ضغط الجائحة ضمن بحثها عن حلول تضمن استمرار التعليم، وحق الجيل في التعلم وعدم ضياع سنوات من أعمارهم بسبب تعذر التعلم الوجاهي ضمن الإجراءات الاحترازية التي اتخذتها الأمم والشعوب لمواجهتها، حيث كان الاعتبار الأول عند الجميع هو سلامة الطلاب والطالبات والمعلمين وأفراد أسرهم، وتجنب تعرضهم للإصابة بالمرض ونقله إلى غيرهم فإن ما يمكن قوله الآن إنه حتى بعد انتهاء الجائحة لابد من بقاء التعليم عن بعد بشكل أو بآخر، خاصة وأن تجربة التعليم في ظل الجائحة مع وجود كثير من الانتقادات التي توجه إليها، والإجماع على أن التعليم عن بعد لا يمكن أن يكون بديلاً عن التعليم الوجاهي لأسباب كثيرة إلا أن هناك إجماعا أيضًا على أن هذه التجربة لابد من الاستفادة منها مع ملاحظة السلبيات التي واكبتها بغرض التحسين وتلافي هذه السلبيات بحيث ينظر للتعليم عن بعد باعتباره إستراتيجية مستقبلية للتعليم بشكل نسبي أو جزئي، لا سيما وأنه اعتمد بشكل كلي تقريبًا على استخدام التقنيات الإلكترونية الحديثة وتطبيقاتها بما يلاءم طبيعة عملية التعلم والحرص على وجود مساحة كبيرة من التفاعلية في هذا التعلم بحيث يكون الطالب شريكًا في عملية التعلم وليس متلقيًا، وهو المبدأ الذي كان الجميع يتحدثون عنه باستمرار قبل الجائحة في ظل المفاهيم التربوية الحديثة التي تركز على التعلم بديلاً للتعليم والتدريس لما لذلك من أثر كبير في تنمية مهارات التفكير العليا والتفكير الناقد والإبداعي ومهارات الاستماع والحوار وغيرها من المهارات الضرورية للفرد في العالم المعاصر. ما يمكن قوله إذاً هو أن التعلم عن بعد والإلكتروني وعلى ضوء تجربة توظيفه في مواجهة مشكلة احتمال انقطاع التعليم في زمن الجائحة قد تجسد باعتباره إستراتيجية لابد من استمرارها حتى بعد الجائحة وتطويرها واعتمادها، وأن لا تقتصر النظرة إليها باعتبارها حلاً اضطراريًا تم اللجوء إليه محليًا وعالميًا بسبب ظروف معينة، ولا شك أن ذلك يقتضي تلافي السلبيات التي أشرنا إليها وفي مقدمتها تحسين البنية التحتية للخدمات الإلكترونية، وتوفير الأجهزة التفاعلية الذكية للطلاب والمعلمين، وكذلك توفير الشبكة العنكبوتية في سائر المناطق بالشكل الذي يلبي احتياجات الطلاب ويمنع حالات ضعف الشبكة أو انقطاعها بسبب الضغط المتزايد عليها أوقات التحاق الطلاب الافتراضي بمدارسهم، بل لماذا لا تقدم هذه الخدمة للطلبة والمعلمين مجانًا، لا سيما وأن الدولة تقدم تعليمًا مجانًا لأبنائها في جميع المراحل الدراسية، وكذلك لابد من استمرار الجهود المجتمعية التي بذلت لتوفير الأجهزة الذكية للطلبة والطالبات وهي جهود تميزت بها بلادنا والحمد لله بحيث شارك القطاع الخاص والقطاع الخيري إلى جانب الدولة في حل هذه المشكلة وتوفير الأجهزة الذكية لمن لا يستطيعون الحصول عليها من الطلاب بسبب الظروف الاقتصادية التي يعيشونها في الوقت الذي نسمع فيه ونقرأ أن بعض الطلاب في دول أخرى يشتركون في هاتف والدهم الوحيد ويتناوبون عليه مع أن عددهم في الأسرة الواحدة قد يصل أحيانًا إلى خمسة أو ستة بسبب عدم القدرة على توفير الأجهزة المطلوبة، ومما ينبغي أيضًا الاهتمام به حوسبة المقررات الدراسية بما يتلاءم مع اعتماد هذه الإستراتيجية في مراحل التعليم العام والتعليم العالي، ونشر الثقافة الرقمية والتعامل مع التقنيات الإلكترونية بين أفراد المجتمع جميعًا وفي مقدمتهم المعلمون والطلبة وأولياء الأمور وفي هذا المجال لابد من الإشادة بقرار وزارة التعليم بتدريس الثقافة الرقمية في الصف الرابع الابتدائي بدءًا من العام الدراسي القادم، وهو ما سوف يتوسع تدريجيًا بالتأكيد بحيث يشمل كافة الفصول الدراسية مستقبلاً.. لقد كثر الحديث قبل الجائحة عن مدرسة المستقبل والمدرسة الإلكترونية والصفوف الذكية أيضًا، وكان ذلك يشمل جوانب عديدة منها استقلالية القرار في المدرسة والإدارة الذاتية التي يشارك فيها المجتمع المحلي وأولياء أمور الطلاب بما في ذلك تحديد السياسات واختيار المقررات والمعلمين والإداريين وحتى اعتماد الإستراتيجيات التي يمكن استخدامها لتحقيق أهداف المدرسة ولكن على ضوء المرحلة التي مرت هذا العام لابد من التأكيد أن مدرسة المستقبل هي بالتأكيد مدرسة يجب أن تعتمد إستراتيجية التعلم عن بعد إن لم يكن بشكل كامل فبشكل جزئي وبالتكامل مع التعلم الوجاهي بما يتناسب مع طبيعة المقررات الدراسية والمناهج، خاصةً وأن بعض المواد العلمية والتطبيقية لابد أن يكون تعلمها حضوريًا فيما يمكن أن يتم تعلم المواد الأخرى عن بعد، ليس لما يحققه ذلك من الأهداف التربوية والتعليمية فقط، بل ومن أهداف اقتصادية واجتماعية أيضًا، ولما يصاحب ذلك من خفض النفقات، وحلول لازدحام الطرقات، وتوظيف الوقت بشكل مناسب من قبل كافة أطراف العملية التعليمية بل وأطراف المجتمع.. ربما لا تتطابق الآراء بشكل كامل حول هذه القضية كما هو الحال تجاه غيرها من القضايا ولكن ما يمكن الجزم به هو أن التعلم عن بعد يلقى قبولاً واسعًا باعتباره إستراتيجية يمكن الاعتماد عليها بل ينبغي الأخذ بها مستقبلاً، لكن الخلاف هو في مدى الاعتماد على هذه الإستراتيجية وحصتها في العملية التعليمية مستقبلاً، مما يؤكد أن على أصحاب القرار الاستعداد لهذا الخيار، وربما في أوقات قريبة جداً وهو ما نعتقد جازمين أنه لا يغيب عن رؤية المسؤولين في وزارة التعليم الذين أثبتوا من خلال القرارات التي اتخذت خلال الجائحة القدرة على الاستجابة بكل كفاءة لرؤية ولاة الأمر وحرصهم على استمرار العملية التعليمية، وتحقيق أفضل المخرجات الممكنة في ظل الظروف الاستثنائية الحالية مما يعزز الأمل بمزيد من القرارات الحكيمة –بإذن الله-.
Fahad_otaish@