لم يصدق خبراً، وانطلق مسرعاً إلى منزل الموظف المسكين ووقف ببابه مترصداً، وبالفعل ما هي إلى دقائق حتى ظهرت الفريسة محملة بلوازم الرحلة البرية، فوقع اللقاء وانكشف صاحبنا أمام مديره شر انكشاف. وبرقت عينا المدير انتصاراً، عاد بعدها منتشياً للعمل، وأصدر قراراً مباشراً بالخصم على الموظف، خصماً مضاعفاً لقاء فعلته الشنعاء!!
لم تمر سوى عدة أيام بعد تلك الحادثة حتى طرق الموظف باب المدير مقدماً له طلب الاستقالة.
انتصر المدير، ولكنه خسر موظفاً، وخسر عقلاً مدبراً وقلباً نابضاً لإدارته. ونحن كذلك في كثير من المواقف، التي نصادفها في حياتنا قد ننتصر، ولكننا قد نخسر ما لا تعوضه نشوة الانتصار اللحظية. ولا أجد أبلغ من قول أبي تمام: ليس الغبي بسيد قومه... لكن سيد قومه المتغابي!
تصيدنا ومحاربتنا الدائمة والدؤوبة للانتصار بكل معاركنا اليومية قد تكون سبباً لهروب الأشخاص من حولنا، وهي كفيلة أيضاً بتحويلنا من مدير أو عامل أو أخ أو أخت أو زوج وزوجة إلى عدو دائم يغص بلوعة المهانة أو المذلة غير الظاهرة للعيان، ولكن الأيام كفيلة بإظهارها. دماثة الخلق والسماحة ليست حكراً على الجينات الوراثية والسلالات الرفيعة، هي عادات يمكن اكتسابها متى ما أدركنا حجم الخسائر مقارنة بانتصار أبتر يتيم. بعض انتصاراتنا الهوجاء تكون خنجراً مسموماً في خاصرة الكرامة، لا يمكننا تجاوزه إلّا بالرحيل. فخسارة الموظف ليوم أو يومين من أجره أمرٌ هين يمكن تجاوزه أما خسارته لشخصه وكرامته أمام المدير، وإن كان بالفعل مخطئاً لا يمكن أن تعوض. كنت ومازلت من خلال ما أقرأ وأكتب أحاول حتى اللحظة أن اختار معاركي بدقة، فالانتصارات عاطفية والخسائر مادية.